المنظور الجيوبوليتيكى للحرب الإسرائيلية على غزة
إيريني سعيد
آخر تحديث:
الإثنين 30 أكتوبر 2023 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
يفهم السياق الجيبوليتكى للأحداث والقضايا أكثر، فى إطار العلاقات الدولية ومفاهيمها، وإن كان المفهوم الموجز للجيوبوليتكيا أو الجغرافيا السياسية، هو التأثير المتبادل ما بين الجغرافيا والسياسة، فإذا كانت الجغرافيا السياسية تبحث مدى الاستفادة من جغرافيا الدولة وعواملها الديموجرافية ومن ثم التأثير فى سياساتها سواء داخلية أو خارجية، فإن الجيوبولتيكيا تعنى كيفية توظيف قوى الدولة المختلفة وتوازناتها، أيضا علاقاتها من أجل سياسة خارجية أكثر تأثيرا ودورا فعالا على المستويين الإقليمى والدولى، سيما فى أطر القضايا والمواقف الدولية المختلفة وما تبرزه من صراعات أو حتى تقاربات وتفاهمات.
ولا شك تمثل الصراعات أعقد العلاقات فيما بين الدول وبعضها، سيما عقب تداخل الأطراف ما بين أصيلة ومعنية وأخرى ضالعة بحكم التأييد والدعم أو حتى المعارضة والنكاية، ومن ثم تبرز عدة من التغيرات الجيبوليتيكية يفرضها الواقع المعاصر ومجرياته، خصوصا من قبل الفواعل من الكبار، سواء المؤسسات أو الدول، مع تزايد حدة المواقف باستمرار التصعيد العسكرى من قبل قوات الاحتلال على غزة، وبالرغم من المحاولات العربية وأبرزها قمة السلام والتى عقدت فى القاهرة، واعتبرت أبرز المحاولات الجادة فى تناول هذا الصراع والتعاطى معه، وفى ظل تكثيف إسرائيل لهجماتها وبدء التوسع فى حربها البرية على القطاع الأعزل وسكانه المدنيين.
وبما لا يفهم بعيدا عن محاولات التسييس، للمرة الرابعة يفشل مجلس الأمن فى اعتماد قرار وقف إطلاق النار، ومن ثم يثير المخاوف جراء احتمالية استمرار تسييسه، وهو ما يعيد الأضواء إلى حتمية إعادة هيكلته ومراجعة آليات عمله، سيما الفيتو والذى طالما قوض عدة من القرارات والمصالح، وبحث كيفية عودة فعاليته.
غير أن الدور العربى ما يزال يحاول دعم الأشقاء فى فلسطين وعلى المستويين السياسى والإنسانى، وعبر محاولات جادة أبرزها، دعم مشروع قرار مفاده هدنة إنسانية فورية مع وقف القتال، وهو ما اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، عقب تصويت أكثر من 120 دولة لصالحه، التحركات أيضا من قبل القادة والزعماء جاءت متواترة وسريعة، وهو ما أكد أولوية القضية الفلسطينية بالنسبة لمعظم الدول العربية، وربما لم تتراجع أهمية القضية على الرغم من عدد من التحديات تواجه الأمة والمنطقة سواء تحديات اقتصادية أو مخاطر جيوسياسية.
• • •
تتعدد أوراق إيران والتى تلعب بها فى هذه الحرب، وربما تستعد طهران لتغيير خريطة استقرار الشرق، وتكثيف الاستعدادات بخصوص مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، المواجهة والتى كثيرا ما تم تأجيلها، ومن ثم تفضل طهران الاحتكاك فى الصراع الدائر عبر أذرعها بالجنوب اللبنانى والغرب السورى، حتى مع تصريحات طهران المباشرة بالتدخل المباشر حال الاجتياح البرى لغزة من قبل الكيان المحتل، وهو ما سيعدد جبهات القتال المواجهة لإسرائيل، ولعل أحدث هذه المواجهات مهاجمة حزب الله لموقع إسرائيلى على الحدود مع لبنان وتكبيد الجيش الإسرائيلى عددا يذكر من الخسائر.
غير أن الحرب لم تخدم كثيرا على الموقف الجيوسياسى لتركيا، والتى تسعى أخيرا من أجل إعادة هيكلة العلاقات مع إسرائيل، وبالمقابل الإبقاء على حماس كحليف استراتيجى، ومع ارتكانها لمبدأ الرصانة فيما يخص إدارة الموقف، لم تسلم من الجانبين لتوجه النقد العلنى لإسرائيل عقب بدء الاجتياح البرى للقطاع، وهو ما أغضب إسرائيل وتسبب فى سحب دبلوماسييها من أنقرة.
لم تتغير العقيدة الجيبوليتيكية كثيرا لدى الولايات المتحدة، فى هذه الحرب، حيث يظل الدور التقليدى لواشنطن، واعتماد نفس السياسات سواء فى الدعم لحليفتها بالشرق وعبر آليات تنوعت ما بين عسكرية وسياسية وأيضا لوجيستية، إما عبر تقويض قرارات مجلس الأمن باستخدام الفيتو، أو مواصلة إرسال حاملات الطائرات والسفن، أيضا جنود المارينز، حتى المؤسسات الأمريكية الداخلية والتى اعتادت معارضة البيت الأبيض فى قراراته تجاه السياسات الخارجية، خضعت فى مواجهة اللوبى الصهيونى، حيث أعلن رئيس مجلس النواب الجديد، مايك جونسون، دعم إسرائيل وبكل السبل.
لكن واشنطن أيضا تراقب التحركات الإسرائيلية عن بعد، ودون توجيه أو إقحام فى مزيد من الصراعات، وفى إطار التوجيهات غير المباشرة تترك الولايات المتحدة لإسرائيل القرار النهائى عقب دعمها مخابراتيا ولوجيستيا، لكنها تردد دائما لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها، ولم يعلق البيت الأبيض على اتساع العملية العسكرية على غزة، لكنه أكد أيضا «لا نرسم خطوطا حمراء لإسرائيل».
• • •
معطيات الصراع وكما أسهمت فى تقديم حماس كطرف ضالع فى المعادلة، سيما على إثر حجم تسليحها وهيكلة الأنفاق التى تستعين بها الحركة، لا زالت تقدم فلسطين فى الأعراف الدولية وتحديدا غزة كشعب أعزل، وهو ما سيدفع بمعظم دول أوروبا وفى المقدمة فرنسا وبريطانيا إلى الاتزان فى الحديث أو الإشارة إلى الناتو، لكن لا شك فى حضور الاستراتيجية الغربية ومقتضياتها دعم حليفة الولايات المتحدة، مع اعتماد التوازن فى ضوء علاقاتها ومصالحها بالمنطقة، وتحديدا أفريقيا.
عودة أجواء الحرب الباردة تحتم على روسيا دعم فلسطين فى مواجهة الولايات المتحدة، وبغض النظر عن استراتيجية العلاقات مع إسرائيل. لكن تركز موسكو على تقويض المساعى الأمريكية، مع انتهاج المزايدات بخصوص دعم القضية الفلسطينية، ومن ثم إزاحة الحرب الروسية ــ الأوكرانية بعيدا عن الأضواء على الأقل هذه الأوقات، والأهم الترويج لمخاوف عدم استقرار المنطقة، على خلفية اتهامات موسكو لواشنطن وضلوعها فى دعم إسرائيل.
ربما التداعيات الجيبوليتيكية لم تصل إلى الصين، والتى تحرص تجاه الصراعات فى إبراز رصانة معهودة، حتى دعمها دائما ما يبرز فى الدعم التقنى والاقتصادى، ومع ذلك تؤمن بكين بالقضية الفلسطينية، ولها استراتيجيتها المتعارف عليها فى هذا الإطار، وأبرز ثوابتها دعم السلام، غير أن دبلوماسية الصين الفاعلة تبرز فى حالة الاتزان والتى تنتهجها حيال طرفى النزاع، فبينما تربطها مجموعة من المصالح الإستراتيجية المهمة مع إسرائيل، وربما حجم استثمارات يتخطى 8 مليارات، تدعم بكين فلسطين سياسيا وعبر حقها فى مجلس الأمن.
• • •
هنا يمكن الجزم بأن التداعيات الجيبوليتيكية للقضايا والمواقف، لا تفهم بمنأى عن مصالح الدول الاستراتيجية وقناعاتها السياسية، وهو ما لا ينفك أيضا عن الرأى العام الداخلى للدول، حيث تختلف الشعوب والأفراد فى قناعاتها عن النظم السياسية الحاكمة، بدليل أن الداخل الإسرائيلى وأيضا الأمريكى، يرغبان فى السلام، ويطالبان الحكومات بضرورة التوقف عن ممارساتهما واستعداداتهما تجاه الاجتياح البرى لغزة، وهنا نرصد عدة دوافع:
أولا: تكلفة الحرب العالية والتى تتحملها الشعوب، حيث بلغت أحدث دفعات الولايات المتحدة لأوكرانيا وإسرائيل معا ما يجاوز 70 مليار دولار، ناهيك عن دفعات متتالية تخطت عشرات المليارات وجهت لأوكرانيا، فى حين تراجع الشيكل أمام الدولار ما دفع البنك المركزى للزج بأكثر من 50 مليار دولار، من أجل استعادة الشيكل لتوازنه.
ثانيا: الداخل غير المستقر، على خلفية المناوشات بين الأجهزة التنفيذية والتشريعية، إن كان الولايات المتحدة ومعارضة الكونجرس لقرارات بايدن، أو الخلاف ما بين نتنياهو والسلطة القضائية على إثر محاولاته تسييس المؤسسة القضائية، وهو ما أسقط عدة من أسهمه.
ثالثا: رفض الشعوب لحكامها وبحسب استطلاعات الرأى فإن نتنياهو، لم يعد يتمتع بقبول إسرائيلى، وألقيت عليه مسئولية العملية الأخيرة «طوفان الأقصى»، فلا يزال الداخل الإسرائيلى يعانى عدم الاستقرار ويتخوف من الهجمات القادمة، ويطالب بإطلاق سراح رهائنه، وربما يعزى أسباب هذه التوترات إلى نتنياهو وحكومته المتطرفة.