افشل أفضل

محمد الهوارى
محمد الهوارى

آخر تحديث: السبت 30 نوفمبر 2019 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

عندما يسألنى أحدهم عن الفارق بين الاقتصاد الأمريكى والاقتصادات العربية، أقول لهم إن الفوارق متعددة ولكن الفرق الرئيسى فى تقديرى هو أن المفلس فى البلاد العربية يفقد حقوقه المدنية أو يسجن، والمفلس فى أمريكا يصبح رئيس جمهورية.
ربما كان من غير المعروف أو المتداول أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب له ست حالات إفلاس لشركاته، بداية من ثلاثة إفلاسات لممتلكات فى مدينة اتلانتك سيتى الأمريكية، وهى إفلاس فندق تاج محل عام ٩١، وإفلاس فندقى ترامب كاستل وترامب بلازا عام ٩٢، ثم ثلاثة إفلاسات أخرى وهى فندق ترامب بلازا فى نيويورك عام ٩٢ وشركة منتجعات ترامب عام ٢٠٠٤ وأخيرا شركة منتجعات ترامب للترفيه عام ٢٠٠٦. قانون الإفلاس فى أمريكا قد يكون الأكثر تقدما فى العالم، ويمثل ميزة حقيقية للشركات العاملة هناك. وللإفلاس عدة قوانين حاكمة أشهرها إفلاس الفصل الحادى عشر المعروفة باسم Chapter 11. ما يحدث عندما تتعثر شركة وتدخل فى دوامة الديون أنها تصل لمرحلة أن تتقدم نفسها بطلب دخولها فى «حماية» الفصل الحادى عشر من قانون الافلاس، وهو فى مجمله يعطى حماية للشركة من الاجراءات القضائية الخاصة بالمديونيات القائمة بقدر كاف للشركة يمكنها من استمرار أعمالها، وفى نفس الوقت تنظم علاقتها مع الدائنين حتى تسوية مديونياتهم، ومن ثم خروج الشركة من حالة الافلاس. هو إذن افلاس بهدف الاستمرار وليس بهدف الاغلاق والتصفية. قد يصل الموضوع للتصفية الكاملة أو الجزئية وقد يصل لتملك الدائنين للشركة. بالطبع يكون هناك شد وجذب ولكن القانون واضح فى أولويات إدارة شركة تحت بند الافلاس. حتى البنوك الدائنة، يجب أن تقف فى طابور الدائنين وتنتظر دورها. البنك شركة هادفة للربح ولها مساهمون، والمودعون اختاروا البنك، وهناك نسبة تحمل لاختيارهم. جون بول جيتى الملياردير وجامع التحف المعروف له جملة مشهورة «إذا كنت مدينا للبنك بمائة دولار فأنت عندك مشكلة، وإذا كنت مدينا للبنك بمائة مليون دولار فالبنك لديه مشكلة».. تخيل أن تقول هذه الجملة لبنك فى الشرق الأوسط حيث تعتبر أموال البنوك أموالا عامة وتدخل الخلافات معها فى اطار الجريمة الجنائية. تخيل أن تنشئ شركة وتخسر لأى سبب كان فتجد نفسك فى السجن؛ لأنك خسرت كما يخسر الملايين حول العالم. هى نفس الفكرة بالنسبة للشيكات. أتذكر عندما كنت أعمل مع صندوق تمويل من جنوب افريقيا وفوجئوا أن قوانين المنطقة تعطى الحق لحبس شخص بسبب رجوع شيكه، لم يفهموا ثم لم يصدقوا ثم أصبحوا يستخدمون الشيكات؛ لأن القوانين لم تضمن حقوقهم بطريقة أخرى. الشيك فى البلاد المتقدمة أداة تجارية وليست جنائية، هو أداة أداء وليس أداة ردع. فى الدول الأكثر تقدما، رجوع الشيك معناه حق المورد أو البائع فى استرجاع السلعة التى باعها أو فى المضى فى قضية مدنية للحصول على حقوقه. أما أن تسجن بسبب شيك بدون رصيد فهو شىء غير مفهوم لهم. لكن فى نفس الوقت الآلية القضائية المدنية لاسترجاع الحقوق سريعة ونافذة. إذا كان شيكك شخصيا فبالقانون يتم الحجز على الممتلكات حتى الحصول على حقك. إلا إذا تقدمت بطلب إفلاس طبقا للفصل الحادى عشر وهنا يتم معاملة الشخص مثل معاملة الشركة طالما هو يلتزم ببرنامج دفع لاسترجاع حقوق الدائنين.
ذئب وول ستريت جوردان بلفورت والذى جسد شخصيته ليوناردو دى كابريو فى رائعة مارتين سكورسيزى، هذا الرجل تم حبسه 22 شهرا فقط لخرقه قوانين التداول وللنصب على صغار المستثمرين وخرج من محبسه ولكنه لليوم ما زال تحت طائلة برنامج طويل الأجل لتعويض المستثمرين الذين خدعهم، ويقوم بدفع مبلغ شهرى لذلك للحكومة الأمريكية. هل كان من الأفضل أن يبقى سنوات طويلة فى السجن أم أن يخرج ليصبح لديه دخل من جديد ويعيد ولو جزء من أموال المستثمرين، بدلا من إضافة عبء على دافعى الضرائب فى صورة مصروفات سجين، لديك الآن عامل مفيد للمجتمع ويعيد جزءا من الأموال التى اختلسها.
ربما يكون مثال بلفورت مثالا بعيدا وقاسيا لفظاعة جرائمه وتأثيرها السلبى على ألوف البشر ولكن لنعد للأمثلة الأكثر طبيعية. تقول بعض الأبحاث أن رائد الأعمال ينجح غالبا وهو فى منتصف الثلاثينيات وبعد أن يكون فشل فى محاولتين قبل المحاولة الناجحة. الاحصائيات الأمريكية الأخيرة تقول إن متوسط عمر رائد الأعمال الناجح اليوم فى أمريكا هو 45 سنة. المفاجئ أيضا أنه توجد نسبة متزايدة من رواد الأعمال فى سن المعاش. بعد خروجه على المعاش قرر أنه يريد أن يوظف بعضا من أمواله فى عمل يستطيع أن يتابعه على الأقل عدة أيام أسبوعيا فيشارك شابا ينقصه رأس المال ولكن لديه الحماس والنشاط. فريق لا يقهر واحتمالات نجاحه أكثر ارتفاعا بالتأكيد من شاب يبدأ وحده بلا مال أو خبرة. إذا كان القانون غير مناسب لتقبل الفشل، فقبل أن يصل رائد الأعمال لسن المعاش وربما الأربعين أو الثلاثين سيكون بالتأكيد قد تأثر سلبا بفشل تجاربه السابقة لمرحلة يصعب معها الوقوف من جديد. الأموال قد تعود من جديد وقد لا تعود ولكن السنوات التى تضيع فى غياهب إجراءات صارمة وطويلة كفيلة بأن تقضى على روح المبادرة والصحة والجرأة التى يحتاجها أى رائد أعمال.
من إبراهام لنكولن لوالت ديزنى لجورج فورمان الملاكم المعروف لجنرال موتورز قائمة الأشخاص والشركات الذين عادوا من الافلاس طويلة والقصص ملهمة ومؤثرة. ولكن الفشل لا يعنى فقط الافلاس، قد يعنى فشلا من أى نوع فى أى شىء فى الحياة. فى الولايات المتحدة تكاد تشعر بفخر من يحكى عن فشله. هو يحكى عن تجربة حياتية قيمة مر بها. طالما مازال يتنفس يقولون إنه مستعد للرجوع على ظهر الحصان الذى وقع من فوقه. الوضع مختلف فى دول أوروبا وآسيا ولدينا. ثقافتنا مثل ثقافاتهم توصم الفاشل بعار يصعب عليه الاستمرار بعده. العديد من الدول المتقدمة انتبهت لذلك وتعمل على تغيير نظرتها للفشل. فنلندا احتفلت عام 2010 باليوم العالمى للفشل. فى السويد أنشأوا عام 2017 متحف الفشل، وهدفه تغيير سلوك ونظرة العامة للفشل. فى 2018 فى مدينة سول الكورية الجنوبية أقاموا أول معرض للفشل، وفى سبتمبر من هذا العام أقاموا المعرض الثانى وعنوانه «افشل أفضل» Fail Better. يجب أن نتذكر أن جراهام بل لم يخترع التليفون من أول محاولة، أكيد هناك من وصمه بالجنون، من كان الذى يتخيل أن نرفع سماعة فى جهة من العالم ويسمعنا الطرف الآخر فى الناحية الثانية من الكرة الأرضية. ولكن المثابرة والبيئة المحيطة بالتأكيد كانت داعمة لتخطى الفشل والوصول للانجاز.
وكيف نفشل أفضل؟ الاحتفال بالفشل ليس معناه الاحتفال به على انه انجاز أو انتصار. أهم شىء فى الفشل هو ان نعترف به أولا ثم نحلل الأخطاء ونرسم خريطة الخروج من المأزق. هوالخطوة الأولى التى يتبعها تشخيص ثم تخطيط وتحرك للأمام. فهل نستطيع تغيير عقلية وصم الفشل والحكم على من يفشل بالنهاية؟ هل من الممكن أن نعيد رسم قواعدنا لتسمح لمن يفشل بالبدء من جديد مرة واثنين وثلاث؟ تخيلوا ماذا يمكن أن يعنى ذلك لحياتنا واقتصادنا ومعنوياتنا.عندما لا نخشى الفشل سنستطيع بالتأكيد التحرك بصورة أقوى للأمام. أدعوا لكم وإياى بأن «نفشل أفضل» فهو أضمن طريق للوصول للنجاح.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved