اتفاق يومى مع الكون
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الخميس 1 ديسمبر 2022 - 12:04 ص
بتوقيت القاهرة
أستيقظ «قبل الضوء» كما نقول فى بلاد الشام. فى البيت الذى نعيش فيه واجهتان، شرقية وغربية. هناك ساعة سحرية ينقسم فيها البيت إلى جهة طلع فيها النهار وأخرى ما زال الليل يغطيها. ألعب مع الضوء كقطة تلاحق كرة من الصوف فأمشى من مكان إلى آخر حافية القدمين حتى لا أوقظ أفراد عائلتى رغم أننى أدخل وأخرج بين أماكن نومهم بحثا عن تدرج الألوان بفعل شمس نوفمبر وهى تتلكأ بالظهور.
• • •
هنا حيث أجلس للكتابة، وضعت صور أفراد عائلتى بمراحل مختلفة، بدءا بصورة زفافى ثم مناسبات ظهرنا فيها كعائلة تكبر. أظن أن السنوات باتت معدودة فى بيت مزدحم قبل أن ينسحب الأولاد كل إلى حياته، ثم سأجلس هنا فى نفس المكان محاطة بصورهم، مجازا لأننى قد أكون فى بيت آخر لكنى أعرف أنه سيشبه هذا البيت، إذ تفشل محاولاتى الدورية بتغيير طابع ما يحيطنى رغم ادعائى أحيانا أننى أعيد ترتيب المكان.
• • •
شمس الخريف أجمل الشموس، تظهر وكأنها مفاجأة فى مرحلة يتوقع فيها الظل، كمن يتلقى هدية خارج أوقات الاحتفال. أفكر بما تعلمته فى سنة مضت حاولت خلالها أن أوسع عدستى فى مراقبتى اليومية لما حولى. أفكر بالغربة وبما أعدت تصنيفه فبات مهما أو خفت أهميته فى نظرى: الصداقات العابرة للحدود من ركائز الغربة، المطبخ وحكاياته (أو «الحواديت» كما يقول المصريون) ، اللهجة والكلمات النمطية التى لا تفهمها أجيال تربت خارج بيئة بعينها، هذه كلها أجدها مهمة. حين أعود إلى البيت بعد العمل أباشر بالتعليمات والتعليقات حول ترتيب المكان وضيقى من الكراكيب المبعثرة، أسأل عن أمور حياتية تنظيمية ويقاوم أولادى تلبية مطالبى. أضحك سرا إذ أرى نفسى جزءا من أمى مع ميول أوضح للتسلط وإصدار أوامر سوف ينفذ أولادى معظمها مع تذمر يزيد كل سنة.
• • •
اليوم أكتب العمود فى بيت لم يستيقظ أهله بعد فأشعر أن دقائقى الصامتة كنز. هل هذه دقائق أنانية؟ ربما. أذكر والدتى حين كانت تتمنى دقائق صامتة لا يطلب منها أى منا مساعدة. ذكرتنى هى هذا الأسبوع بطلبها منا (أى منى وأخى) الهدنة وقالت إنها اليوم، بعد رحيلنا عن البيت، تتمنى أن تصلها أصواتنا وطلباتنا.
• • •
أفهم شعورها، فأنا أمارس هواية إسقاط شعورى على المستقبل واستباق أحداث خاصة سوف تثير عندى العواطف والشجن بعد سنوات. أحيانا أرى نفسى فى حفل تخرج أو فى مجلس عزاء وأحاول أن أفرح أو أن أحزن استباقيا. هكذا إذا أمشى من مكان فى الشقة إلى الجهة المقابلة وأدخل وأخرج من الضوء، وأمشى أيضا من مرحلة فى حياتى إلى مرحلة قادمة فأتنقل بين الأزمان. هى لعبة مدهشة مع الخيال ومبهجة ومخيفة أيضا إن افترضت كل الاحتمالات. أميل تلقائيا إلى احتمالات متوقعة ونمطية: يكبر الأولاد، يرحلون ويزورون البيت بانتظام، أستمر بالكتابة، أحصل على أحفاد، أجلس فى الشمس، يتذمر أولادى من ملاحظاتى المستمرة ومحاولاتى بتغييرهم أو حثهم على تغيير عاداتهم، حفلة عيد ميلاد وشموع وأغنية، وصور رقمية إذ لن يعود هناك أى شىء مطبوع بعد سنوات.
• • •
ها أنا أسمع حركة فى الشقة، أتوقف تماما عن الطباعة حتى لا أجذب من استيقظ إذ أريد أن أسمعهم دون أن يعرفوا. هو تلصص عليهم وعلى دقائقهم الأولى، ريثما يدخل البيت كله الآن فى النور فقد ارتفعت الشمس قليلا وقررت أن تتغلب على الغيوم. هذا أيضا تعلمته فى السنة الأخيرة: أن أشهد على استيقاظ الكون وأن كل استيقاظ للشمس هو يوم جديد أحصل عليه كهدية.
• • •
قال جبران خليل جبران «شيئيان يغيران نظرتك للحياة: المرض والغربة». وبما أننى جربت الشيئين، قررت أن دقائقى مع الكون هى اتفاق سرى أبرمه يوميا مع الحياة: قد لا يبدو على التغيير، لكنى أعرف أن كثيرا مما كان يزعجنى قد فقد سيطرته على. تخليت عن منغصات، قررت مراقبة الصباح والشجرة التى لازمتنى هذه السنة فتعرفت على الفصول من خلال تغير أوراقها، طبعا ما زال أحدهم يزعجنى بتصرفاته غير المسئولة وإحداهن تضغط على أعصابى بسبب حماقتها، كما أتمنى أن يتوقف فلان عن تصرف لا يلاقى استحسانا، يعنى لم أتحول بعد إلى شخص متسامح مع كل ما حوله، إنما أظن أننى حسنت من جودة العدسة خاصتى، وضعت لها «فلتر» أكثر دقة لأعيد بناء علاقتى مع العالم مستخدمة ما فرضه على المرض والغربة، وهما فعلا حدثان يغيران الحياة.