مشّاء بيروت

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 30 نوفمبر 2024 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

نتبعه وهو يسير على قدميه فى شوارع العاصمة اللبنانية، من خلال كتبه ورواياته، وآخرها كان بعنوان «انهيار مفاجئ» (Subsidence) الصادر بالفرنسية عام 2023. يمارس المشى وسط الأنقاض، يكشف لنا حطام المدينة وعوراتها التى لا يعرفها سوى أهلها. المؤلف كميل آمون يفعل كل ذلك دون أن يبالى كثيرا بأن تندرج أعماله تحت تصنيف معين أو تخضع لتوصيف تقليدى. يصحبنا فى جولات شيقة يمتزج فيها الواقع بالخيال وبكم وافر من التأمل والتحليل. الشارع الذى كاد أن «يلقى حتفه» ويختفى من على وجه الأرض فى أحد الانفجارات يصبح بطل الحكاية، وليس الكاتب أو الراوى العليم.
لقد ولد عام 1975، ودرس العلوم السياسية والاقتصاد فى بيروت، ثم بباريس وبولونيا. عمل بعدها لمدة عشر سنوات فى دبى واختص بموضوعات تتعلق بالاستدامة والصمود العمرانى، ثم عاد إلى بيروت ليشتغل بالسياسات العامة فى مجالات مثل العمران والبيئة وصار مستشارا مستقلا للعديد من الهيئات والجهات غير الحكومية. انضم لمجموعة من الشباب اللبنانيين المغتربين وكونوا منصة بحثية تحمل اسم (Lebanon talks) أو «نقاشات لبنان»، تم تسجيلها كمنظمة غير ربحية فى فرنسا، فى أعقاب احتجاجات تشرين الأول 2019 التى اندلعت بسبب زيادة الضرائب المفروضة على بعض الخدمات والسلع، ثم توسعت لتصبح إدانة للحكم الطائفى والفساد وركود الاقتصاد والبطالة.
تزامن مؤتمرهم الافتراضى الأول مع الذكرى الأولى لاندلاع الانتفاضة اللبنانية وعلى مشارف نهوض أحياء بيروت من آثار الدمار الذى أحدثه انفجار المرفأ فى أغسطس 2020. وفى شهر مايو من العام التالى عقدوا مؤتمرهم الافتراضى الثانى بهدف إعادة تشكيل السياسة والحوكمة فى ظل الأزمات المتتالية، مع الحرص على رفع صوت المقيمين بالخارج لتأمين مناخ متنوع فى وجهات النظر.
• • •
أذكر كل هذه التفاصيل لبيان الإطار الزمنى الذى صدرت فيه كتب كميل آمون الأخيرة والتى تعكس بالضرورة اهتمامه بتغيرات المدينة وعلاقتها بالمرفأ من منظور مختلف، يتماشى مع اهتمامه بقضايا الفساد المالى والسياسى ومشكلة الطائفية التى تعرقل الإصلاح الإدارى للمؤسسات، ومن هنا تظهر بيروت فى أعماله بوجهها التعب الذى لم يعد يقدر على الصمود العمرانى ومقاومة الصدمات، كما عُرِف عن المدينة التى تغنى بها الناس عبر العصور.
نشر كتاب «لبنان أكتوبر» (Octobre Liban) عام 2020، وبعده بثلاث سنوات خرج مؤلَفه الثالث إلى النور وهو «انهيار مفاجئ» (Subsidence)، وكلاهما يدوران فى بيروت ويستعرضان بأسلوب مبتكر ما طرأ عليها من عوامل تعرية بسبب الهزائم السياسية المتلاحقة. وكانت قد سبقتهما رواية بعنوان «أوجاريت» استوحى أجواءها من دبى حيث أقام لظروف عمله، واتخذ من هذه المدينة الحديثة التى بُنيت فى الصحراء مدخلا للحديث عن المدن وتطور العمران فى القرن العشرين، من خلال قالب بوليسى تشويقى لا يخلو من الإسقاطات السياسية.
نص «أكتوبر بيروت» يبدأ مع أحداث «ثورة تشرين الأول» أو المظاهرات الاحتجاجية التى انطلقت فى 17 أكتوبر 2019 من ساحة الشهداء، وينتهى بانفجار مرفأ بيروت. يتجول كميل آمون فى شوارع المدينة ومساحاتها المختلفة ليروى تاريخها ويسجل مشاهداته، يستطرد كثيرا ليتضمن حديثه ذكريات شخصية وقصصا تتعلق بآخرين ومعلومات تاريخية، إلى ما غير ذلك. يصف أماكن تتأرجح بين احتضار وأمل، لأنه يعى تماما أننا بصدد وضع تنهار فيه الأنظمة القائمة دون أن نأتى بجديد، عملية مخاض صعبة وانتقال لا نعلم متى سيأخذ مداه، وهذا الوضع ينعكس بالطبع على المدن ومن يعيشون فيها.
بشكل أو بآخر نستكمل مع المؤلف مسيرته فى كتابه الأحدث من خلال تناوله لصور فوتوغرافية تشمل ست بنايات لها رمزيتها عند أهل بيروت، منها على سبيل المثال «برج المر» الذى ما زال يحمل ذكرى الحرب الأهلية ورصاص القناصة، و«الحواجز الأسمنتية فى الدالية» التى وضعها أحد «الكبار» لكى يستولى على أرض هى بالأساس ملكية عامة، وفندق «هوليداى إن» الضخم الذى تحول إلى ساحة للمعارك أيام الحرب وظل حطاما مدمرا مثقوبا بالرصاص ثم خضع لسيطرة الجيش بسبب نزاع على الملكية، ومبنى «مؤسسة الكهرباء» الذى تضرر بشدة من جراء تفجير المرفأ،... وعلى هذا النحو ننتقل معه من مكان إلى آخر فى قلب العاصمة التى عانت على مدى الخمسين سنة الأخيرة من صراعات دفعتها نحو «الانهيار المفاجئ» الذى وصلت إليه، كما يشير عنوان الكتاب، فالانهيار هنا لا يرجع لأسباب جيولوجية وكوارث طبيعية أدت إلى هبوط فى التربة أو نزول تدريجى لسطح الأرض، لكن المدينة مثلما البلد تعانى من تمزق عميق فى نسيجها الاجتماعى بسبب الفساد السياسى والاقتصادى، وهو ما نرى ترجمته من خلال مبانٍ وبشر تحولوا إلى حطام وأشلاء متشظية.
بالنسبة للكاتب، تضاءلت قدرة الجماد والبشر على المقاومة بعد انفجار بيروت، شىء ما أصابه العطب والوهن، ربما بشكل غير مسبوق، وهو يحاول أن يشرح ذلك من خلال منظور الجغرافيا النفسية التى تدرس عادة التأثير المتبادل بين المكان والإنسان وكيف يؤثر الأول على السلوك والتفكير والمشاعر والهويات والعلاقات الاجتماعية.
• • •
يرسم كميل آمون خريطة مختلفة للمدينة ذات طابع أدبى، يجعلنا نشاهد بيروت كما لم نشاهدها من قبل. يجعلنا نلمس أن الأماكن أيضا تحتضر وقد تموت بغير رجعة. نتبين أكثر علاقة المدينة بالميناء، تلك العلاقة الشائكة التى يتناولها مؤتمر «سرد المتوسط» فى دورته الثانية عشرة بالمعهد الفرنسى بالإسكندرية، فى حضور لفيف من الأدباء والباحثين والصحفيين، من بينهم كميل آمون وإبراهيم عبد المجيد وريم بسيونى وعلاء خالد وجورج كيبريوس وفيليب بيجول، فى الفترة من 1 إلى 3 ديسمبر الجارى. موعد مع جولات أخرى فى عمق المدن الساحلية وعدد لا بأس به من محبى التسكع فى الشوارع وعلى ضفاف البحر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved