يا لها من فوضى خلاّقة
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 30 ديسمبر 2011 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
منذ سبع أو ثماني سنوات، عقب الهجوم الأمريكى على العراق، صدر عن كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، تصريح مدهش جاء فيه أن من المرغوب فيه أن تحدث فى منطقة الشرق الأوسط «فوضى خلاّقة».
شعرت حينئذ بأهمية هذا التصريح رغم أنى لم أفهم المقصود منه بالضبط. إذ كيف تكون الفوضى خلاّقة؟ وهل يتطلب كونها خلاّقة أن يكون هناك تخطيط سابق لها؟ وإذا كانت فعلا خلاّقة، فهل هى كذلك فى نظر الجميع، أى بمن فيهم شعوب المنطقة نفسها، أم هى خلاّقة فقط فى نظر الولايات المتحدة؟ أم فى نظر الولايات المتحدة وإسرائيل؟
ظل هذا التعبير «الفوضى الخلاّقة» يعود إلى ذهنى بين الحين والآخر، وعلى فترات متباعدة، حتى جاء يوم الجمعة 28 يناير، عندما ظهر بوضوح أن من الممكن جدا أن تتحول انتفاضة يوم 25 يناير إلى ثورة حقيقية. ولكن انتهى اليوم فإذا بنا نسمع فى الليل أصوات إطلاق الرصاص، ونحن فى حىّ بعيد جدا عن أماكن المظاهرات، دون أن نعرف من أين يأتى الرصاص، ومن الذى يطلقه، مع تناقل الناس أقوالا عن هروب بعض المسجونين من سجن طرة القريب من منزلنا، واستيلائهم على بعض أسلحة السجن، ومهاجمتم بعض المحال التجارية ونهبها. بل وسمعنا أن بعض جنود الشرطة قاموا بأعمال مماثلة، كما سمعنا أنهم هم الذين يطلقون الرصاص بغرض ترويع الناس، وإجبارهم على البقاء فى منازلهم، وعدم الانضمام للمتظاهرين.
كان كل هذا يستحق وصفه بأنه بداية لفوضى حقيقية، دون أن يبدو منها أى شىء خلاّق. ثم حدث بعد ذلك بخمسة أيام (2 فبراير) واقعة الجمل الشهيرة، حين هجمت أعداد كبيرة من سمّوا بالبلطجية، حاملين السيوف والعصىّ والشوم، على المتظاهرين فى ميدان التحرير، وهم يركبون الجمال والخيول، فأشبعوا المتظاهرين ضربا وقتلوا كثيرين منهم، دون تدخل من قوات الأمن، التى كانت غائبة تماما، أو من قوات الجيش أو الشرطة العسكرية التى كانت تحيط بالميدان، ودون أن يفهم أحد بالضبط سبب غياب أولئك أو اتخاذ هؤلاء هذا الموقف السلبى البحت.
تأكد وقوع الفوضى إذن، ثم تتابعت أحداث الفوضى، الواحد بعد الآخر، دون أن يكون لأى منها تفسير معقول، مما جعلنى أسأل نفسى عما إذا كان هناك مخطط شيطانى وراء تتابع أحداث الفوضى على هذا النحو، مما قد يجعل لها هدفا نهائيا لا ندركه بعد، وأن تحقيق هذا الهدف هو المقصود بوصف الفوضى «الخلاّقة».
ذلك أنه سرعان ما حدثت أحداث غير متوقعة وغير مفهومة، من اعتداءات متكررة على كنائس، ومن ثم اشتباكات بين مسلمين وأقباط، دون أن تقوم قوات الشرطة بواجبها لمنع تفاقمها، بل ومع تراخٍ ملحوظ فى القبض على المشتركين فيها أو المحرضين عليها. قيل وقتها إن رجال الشرطة «غاضبون»، بسبب ما تعرضوا له من اعتداءات من المتظاهرين، أو أنهم «خائفون» من اعتداء المتظاهرين عليهم لو تدخلوا بفضّ الاشتباكات. فهل هذا معقول؟ وهل فقدت الحكومة السيطرة تماما على جهاز الأمن؟ فإذا افترضنا أن الحكومة تتعمد إشاعة الفوضى حتى يكفّ المتظاهرون عن التظاهر ضد نظام مبارك، فلماذا استمر هذا التهاون فى فوضى النظام وحكم القانون حتى بعد سقوط رئيس الجمهورية فى 11 فبراير، ومجىء حكومة جديدة زعمت أنها تتعاطف مع الثوار؟
اكتشفنا شيئا فشيئا أن الحكومة الجديدة (حكومة أحمد شفيق) حكومة ثورية وغير ثورية فى الوقت نفسه، إذ بدلا من إحداث تغييرات مهمة فى جهازى الأمن والإعلام، ظل المسئولون الكبار فى الجهازين دون تغيير، ومن ثم لم يكن من الواضح تماما للثوار ما إذا كان الممسكون الجدد بالسلطة ومصدرو القرارات العليا، يفعلون اللازم للقضاء على الفوضى.
حتى جاء استفتاء مارس على تعديل بعض مواد الدستور، فذهب الناس فرحين، وبأعداد غير مسبوقة، إلى صناديق الاستفتاء، فإذا بهم يصدمون من جديد إذ رأوا أن القوى السلفية يترك لها الحبل على الغارب فى التأثير على المشتركين فى الاستفتاء، بالادعاء بكل جرأة بأن كل من يصوّت بـ«لا» على الاستفتاء، إنما هو كافر أو شىء قريب منه، وأن المؤمن الحق هو الذى يقول «نعم». لم تتدخل السلطة بعمل اللازم لمنع هذا السخف. وفى غضون ذلك قامت أعداد من الناس الذين سمّوا بالبلطجية، بإحراق بعض مبانى أجهزة الأمن وما فيها من أوراق وملفات دون أن يتدخل الممسكون بالسلطة للحيلولة دون ذلك إلا بعد قوات الأوان.
ثم انهمرت أعمال الفوضى بعد ذلك بلا حساب، من مظاهرات للمطالبة بحقوق فئة بعد أخرى من الموظفين أو العمال، إلى مظاهرات احتجاج على تعيين محافظ قبطى، إلى قطع الطرق والسكك الحديدية، إلى تكرّر أعمال النهب والخطف، إلى أحداث ماسبيرو التى نسبت أيضا إلى بلطجية، إلى أحداث الاعتداء على معتصمى ميدان التحرير من المطالبين بحقوق أهالى الشهداء، إلى الاعتداء على المتظاهرين فى شارع محمد محمود بدعوى اقترابهم من مبنى وزارة الداخلية، إلى ضرب المعتصمين أمام مجلس الوزراء بالرصاص...إلخ.
كل هذا يتضمن أمثلة كثيرة لحالة من الفوضى التى لاشك فيها، ولكن من أين بالضبط يأتى وصفها بأنها «خلاّقة»؟ فمن وجهة نظر المصلحة الوطنية تبدو الفوضى وكأنها النقيض التام لما نتمناه للوطن: الاقتصاد يتعثر والأسعار ترتفع، والناس يتشاجرون (وأحيانا يتقاتلون) للحصول على أنبوبة بوتاجاز، والسياحة شبه متوقفة، والأمن مفقود فى الشارع، والأقباط خائفون ويفكرون فى الهجرة، والنساء المحجبات يخشين أن يفرض عليهن النقاب، والسافرات يخشين أن يفرض عليهن الحجاب...إلخ. فما هو بالضبط الشىء الخلاّق فى كل هذا؟
كثيرون يعلقون آمالهم على الديمقراطية، ويجدون فيها التبرير الحقيقى لما حدث من فوضى. «لا بأس من بعض الفوضى»، هكذا يقولون، «فى سبيل أن يحصل الشعب فى النهاية على حريته، ويقول كلمته، ويختار ممثليه المعبرين عن رغباته الحقيقية. وقد اختارت الأغلبية التيار الإسلامى، فدعه يحكم إذن، ومتى تسلم الحكم فسوف ترى أن الفوضى قد انتهت».
لا ينكر أحد أن بعض الفوضى قد شابت عملية الانتخاب نفسها، فسُمح باتباع بعض الأساليب غير المشروعة للتأثير فى الناخبين، كقيام بعض أنصار التيار الإسلامى بالدعاية لمرشحين على أبواب اللجان الانتخابية، رغم أن القانون يمنع ذلك، بل وداخل اللجان نفسها، ورفعوا شعارات دينية كان المفروض ألا تقحم على العملية الانتخابية، وجرى تسامح مريب مع هذا أيضا. ولكن قد يقال ان علينا أن نضرب الصفح عن هذا، إذ إن الأرجح أن النتيجة لابد أن تكون لصالح التيار الإسلامى حتى دون اتباع هذه الأساليب.
الشىء المقلق حقا هو أنه بمجرد أن أعلنت نتائج الجولة الأولى للانتخابات بانتصار كاسح للتيار الإسلامى، سمعنا أن مسئولا أمريكيا كبيرا، قد جاء على الفور إلى القاهرة، وزار بعض قيادات هذا التيار فى مقر حزبهم، فأجرى معهم بعض المحادثات التى لم يخبرنا أحد بفحواها بالضبط، رغم أهميتها بالضرورة، ورغم تعارض هذا الكتمان مع قواعد الديمقراطية والشفافية. الذى يستدعى النظر أيضا أن هذه الزيارة غير المتوقعة بالمرة، تأتى من نفس الدولة التى استخدمت منذ بضع سنوات تلك العبارة الغامضة عن «الفوضى الخلاّقة». من حق المرء إذن أن يربط بين هذه الزيارة المفاجئة وبين تلك العبارة غير المفهومة، وأن يثور بذهنه السؤال: «هل كان هذا إذن هو المقصود (بالفوضى الخلاقة)؟ وهل كانت الفوضى (خلاّقة) بمعنى أن تسير الأمور بعد انتهاء الفوضى بما يتفق بالضبط مع رغبات هذه الدولة بالذات؟».