قراءة فى استراتيجية الأمن القومى للرئيس ترامب
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 30 ديسمبر 2017 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، طلب الكونجرس من الرؤساء الأمريكيين إصدار تقارير سنوية عن استراتيجية كل منهم لصيانة الأمن القومى الأمريكى. جميع الاستراتيجيات الصادرة منذ ذلك الحين تحمل عناصر مشتركة، وبينها تواصل، فللدول هياكل سياسية واقتصادية وعسكرية، كما أن لها تحالفات وارتباطات لا تتغير كلية بين عشية وضحاها. ومع ذلك، وعلى الرغم من المشترك بينها، فالاستراتيجية الأولى للرئيس ترامب فيها ما يميزها بوضوح عن سابقاتها، وهو الشىء الذى لا يمكن أن يفاجئ أحدا حيث إن الرئيس الأمريكى الحالى يختلف عن سابقيه من حيث أصوله المهنية، وانعدام خبرته السياسية، وسلوكه الفج، وآرائه السياسية البدائية. ليس الغرض من هذا المقال إجراء مقارنة بين استراتيجية الأمن القومى الأمريكى الجديدة وسابقاتها، ولا هو دراسة جوانبها العديدة التى تشمل ضمن ما تشمل البحث والتكنولوجيا والاختراع والابتكار، ولكنه مجرد استعراض للخطوط العريضة لإدراك الرئيس الأمريكى الحالى للعلاقات الدولية، ولخوض غمارها، ولدور الولايات المتحدة فيها، ثم هو بعد ذلك استعراض فهم الرئيس ترامب للوضع فى الشرق الأوسط، منطقتنا، وللمشكلات التى تعترضه، وأخيرا لأولوياته فى التصدى لها. أما الهدف النهائى للمقال فهو أن يشارك فى تبديد أوهام من يعتقدون مخلصين أن الرئيس ترامب يمكن أن يسهم فى حل مشكلات منطقتنا.
للاستراتيجية أربع ركائز تفصِل فيها، ثم قسم عن «الاستراتيجية فى إطار إقليمى». الركيزة الأولى للاستراتيجية هى عن «حماية الشعب الأمريكى والوطن وطريقة الحياة الأمريكية»، والركيزة الثانية عن «تعزيز الرخاء الأمريكى»، أما الثالثة فهى عن «صيانة السلام عن طريق القوة»، وأخيرا الركيزة الرابعة عن «تدعيم النفوذ الأمريكى». الركيزة الأولى تحدد الأخطار التى تهدد الولايات المتحدة، ولكنها فى الأساس مع الركيزتين الثانية والرابعة عن الأهداف التى تبغى الاستراتيجية تحقيقها، وإن ورد فى الركيزتين الثانية والرابعة كذلك ذكر بعض سبل تعزيز الرخاء وتدعيم النفوذ الأمريكيين. أما الركيزة الثالثة فهى تعتمد القوة وسيلة أساسية لتحقيق الأهداف الأمريكية، وهى القوة العسكرية تحديدا. فى نظر الرئيس ترامب «القوة العسكرية الأمريكية مكون حيوى فى التنافس من أجل النفوذ»، والولايات المتحدة يجب أن تحتفظ بتفوقها العسكرى، فهذا التفوق هو الذى «يدعم دبلوماسيتنا ويسمح لنا أن نشكل البيئة الدولية التى تحمى مصالحنا». لذلك تدعو الاستراتيجية إلى زيادة حجم القوات الأمريكية والإنفاق عليها، وإلى تعزيز قدراتها بما فى ذلك النووية منها، وهى تدعو حلفاء الولايات المتحدة إلى أن يحذوا الحذو نفسه. ولا بد فى الاستراتيجية الأمريكية أن «نقنع خصومنا أننا نستطيع أن نهزمهم وأننا سنهزمهم، ولن نلحق بهم العقاب فقط، إن هم هاجموا الولايات المتحدة باستخدام القوة أو أى شكل آخر من أشكال العدوان».
***
فى أماكن عدة منها تحدد الاستراتيجية «خصوم» الولايات المتحدة وهم: روسيا والصين، اللتان تتطلعان إلى أن يكون لقوة كل منهما آثارها فى العالم وإن كان «الجانب الأكبر من تعاملاتهما مع الأقرب منهما جغرافيا»، وكوريا الشمالية وإيران، الدولتان المارقتان، اللتان مع ذلك تمثلان «تهديدا أكبر للقريبين منهما»، ثم يشمل الخصوم اللذين يتحدون الولايات المتحدة الجماعات الجهادية الإرهابية. يمكن الإدلاء بملحوظات عديدة على هذا التشخيص ولكن نكتفى بثلاث منها. أولا بشأن المصطلحات فالاستراتيجية تتفادى استخدام مصطلح «الأعداء» حتى بخصوص كوريا الشمالية وإيران والجماعات الإرهابية على الرغم من أن ذلك لم يكن ليكلفها الكثير عمليا. ثانيا، على الرغم من أنهما خصمان فإن روسيا والصين أدنى مستوى من الولايات المتحدة فإن جل تعاملاتهما إقليمية الطابع وليست عالمية. الملحوظة الثالثة هى أن ثمة تناقضات وخلطا ومغالطات كثيرة فى الاستراتيجية. الجماعات الإرهابية خصوم ولكن روسيا، الخصم الآخر بل والأولى، هى التى لعبت الدور الجوهرى فى هزيمتها فى سوريا، وهو ما سكتت عنه الاستراتيجية عندما نسبت إلى الولايات المتحدة فى مكان آخر منها كل الفضل فى إلحاق الهزيمة بها.
فى المفاهيم التى تستند إليها الاستراتيجية، مصطلح «التنافس من أجل النفوذ» يخفى مفهوم «الصراع»، والتركيز على القوة العسكرية يعنى تشديدا على أن الصراع لا تحسمه إلا القوة العسكرية أو التلويح بها. هذا الإدراك للعلاقات الدولية يتفق مع النظرة إلى العالم على أنه يتكون من «دول قوية، مستقلة وذات سيادة، لكل منها ثقافتها وأحلامها، تعيش جنبا إلى جنب فى رخاء وحرية وسلام». هذا العالم الذى يصوره الرئيس ترامب، والذى لا تتجمع فيه جوانب من سيادات كل الدول فى سيادة جماعية مشتركة، هو الذى تحاربت الدول الأعضاء فيه لقرون وقرون حتى خاضت حربين عالميتين فى خلال ربع قرن راح ضحيتهما ما يناهز الثمانين مليونا من البشر. دارسو نظرية العلاقات الدولية يعلمون أن هذه هى نظرة «المدرسة الواقعية» فى أكثر صورها بدائية.
***
هذه النظرة إلى العالم هى التى تجعل استراتيجية الرئيس ترامب تمسك عن أى تناول إيجابى لمفهوم التعاون الدولى، هذا التعاون الذى دشنه المجتمع الدولى منذ بدايات القرن التاسع عشر للتخفيف من حدة الصراع بين الدول. لأن التعاون لم يكن إلا فى بداياته ولأنه لم يكن كافيا، نشبت الحربان العالميتان فى القرن العشرين، فلما انتهت الحرب الأخيرة منهما، قررت الدول ذات السيادة أن تعزز من التعاون بينها من خلال الأمم المتحدة، منظمة ومنظومة، حتى لا تقوم حرب ثالثة. الرئيس ترامب يتجاهل ذلك كله، بل هو ينعى على التعاون الدولى تعديه على سيادة الولايات المتحدة! الاستراتيجية تقدِم الولايات المتحدة على أنها ضحيةٌ للتعاون الدولى سواء فى المجال السياسى أو الاقتصادى أو حتى العسكرى! لأنها ضحية يستغلها الآخرون، فإن وضعها فى العالم تراجع، وتدهور اقتصادها وبنيتها الأساسية وغيرهما. هذا الإدراك للعالم وللولايات المتحدة فيه هو الأساس لشعار الرئيس الأمريكى «أمريكا أولا». لأن الآخرين يستغلون قواعد التعاون الدولى، يغزو الآخرون السوق الأمريكية بصادراتهم وتعانى الولايات المتحدة من عجز فى ميزانها التجارى. الرئيس ترامب يسهو عن الإشارة إلى تريليونات الدولارات التى تستثمرها الدول الأخرى فى أذون الخزانة الأمريكية، بخلاف تلك المستثمرة فى أنشطة اقتصادية متعددة، والتى تمكِن للولايات المتحدة من أن تعيش فى مستوى أعلى من ذلك الذى يسمح به إنتاجها، وإن تعدى ربع الناتج العالمى الإجمالى.
لكل ما سبق فإنها عندما تذكر المؤسسات الدولية، تأخذ الاستراتيجية عليها أنها كثيرا ما اتخذت مواقف مناوئة للولايات المتحدة. الاستراتيجية تحذر من أن الولايات المتحدة لن تسمح للمؤسسات الدولية من الآن فصاعدا بأن تنتقص من سيادتها، وهى ستعطى الأولوية للمنظمات التى تخدم المصالح الأمريكية. بعبارة أخرى، الولايات المتحدة لن تقبل بتجميع أى جزء من سيادتها مع سيادات الآخرين ولكنها ستخضع هذه السيادات لسيادتها. الولايات المتحدة يجب أن تقود المؤسسات الدولية التى «تشكل الكثير من القواعد المؤثرة فى المصالح والقيم الأمريكية». وتدعو الاستراتيجية الدبلوماسيين الأمريكيين إلى «أن ينشئوا وأن يقودوا مجموعات متآلفة تدعم المصالح المشتركة وتعبر عن رؤية أمريكا فى المحافل الدولية».
هذه النقطة الأخيرة بالذات هى التى تبين أوجه الخلل الشديد فى الاستراتيجية وهى تفضى بنا إلى تناول نظرتها إلى الشرق الأوسط ومشكلاته. فى نفس أسبوع صدور الاستراتيجية، فشلت الولايات المتحدة فشلا ذريعا فى مجلس الأمن حيث صوتت كل الدول الأعضاء فيه، بما فيها حلفاؤها الأقربون، لمطالبتها بسحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها، واستخدام الولايات المتحدة لحق «الفيتو» حتى لا يصدر قرار بهذا المعنى لا ينتقص من الفشل الذريع شيئا. بعد مجلس الأمن، انعقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة وبدورها اتخذت قرارا بأغلبية ساحقة يطالب الولايات المتحدة هو الآخر بسحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، على الرغم من التهديدات الفظة والضغوط الهائلة التى بذلها الدبلوماسيون الأمريكيون لإثناء الدول الأعضاء عن التصويت لصالح القرار، أولئك الدبلوماسيون المفترض فيهم قيادة «مجموعات متآلفة... تعبر عن رؤية أمريكا فى المحافل الدولية»!.
***
رؤية الرئيس ترامب للشرق الأوسط ــ كما تكشف عنها الاستراتيجية ــ هى أن الصراع بين «إسرائيل والفلسطينيين» ليس كما كان الاعتقاد فى الماضى «المنغص الأول الذى يحول دون السلام والرخاء فى المنطقة»، وأن التهديدات التى تمثلها المنظمات الإرهابية الجهادية وإيران حاليا جعلت هناك إدراكا «بأن إسرائيل ليست السبب فى مشاكل المنطقة»، وهى أدت إلى أن دولا، لم تسمها الاستراتيجية، «أصبحت وبشكل متزايد تجد أرضية مشتركة مع إسرائيل لمواجهة مخاطر مشتركة». هذا هو بيت القصيد فى رؤية الرئيس ترامب والذى يستند إليها فى تأكيده على التزام الولايات المتحدة «بالمساعدة على تيسير التوصل إلى اتفاقية سلام شاملة مقبولة لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين». بخلاف ذلك وفيما يخص الشرق الأوسط ليس فى الاستراتيجية شىء محدد بخلاف المساعدة على التدريب على محاربة الإرهاب ومقاومة إيران وسعيها النووى.
الشعب الفلسطينى رفض رؤية الرئيس ترامب، والشعوب العربية رفضتها كذلك على الرغم من القمع الذى مورس بحقها حتى لا تعبر عن رفضها هذا.
رؤية الرئيس ترامب فاشلة، لا ريب فى ذلك. ربما وأقدام دول عربية فعلا فى الأرضية المشتركة التى أشارت إليها الاستراتيجية، ولكن لعل أكبرها، مصر، لا تتورط فى رؤية الرئيس ترامب، فهى ليست فقط منحازة ومستهزئة بالفلسطينيين والعرب، ولكن فيها أيضا تكمن مصادر هائلة للاضطراب ولزلزلة الشرق الأوسط.