إعادة بناء الجيش السوري

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 30 ديسمبر 2024 - 6:40 م بتوقيت القاهرة


تشكل عملية إعادة بناء الجيوش الوطنية النظامية، مرحلة مفصلية فى مسيرة ترميم تصدعات الدول المتهاوية. ولقد كانت الصومال أول دولة عربية تعانى تفكيك مؤسستها العسكرية عقب إسقاط نظام الرئيس الأسبق محمد سياد برى، مطلع تسعينيات القرن الماضى. فحينئذ، أصدر رئيس الحكومة المؤقت أوامره للجيش بتسليم سلاحه إلى الجهات التى أسقطت النظام. وفى عام 2003، تعرض العراق لأمر مشابه، حينما أصدر، بول بريمر، الحاكم الأمريكى والمدير التنفيذى لسلطة الائتلاف المؤقتة، التى كانت مسئولة عن إعادة بناء العراق بعد الغزو الأمريكى، وإسقاط نظام، صدام حسين، قراره بحل الجيش العراقى ونزع سلاحه. فيما اضطر، بضغط من القيادات الكردية، إلى استثناء قوات «البيشمركة»، من القرار الكارثى.
تستغرق عملية إعادة بناء القوات المسلحة المهزومة، المدمرة، أو التى تم حلها، وفقًا للمعايير العصرية، ما بين عقد أو عقدين من الزمن. وخلافًا لعملية إعادة بنائه الأولى عقب هزيمة 1967، تتطلب عملية إعادة بناء الجيش السورى المتداعى كلية، هذه الأيام، ما بين خمس وعشر سنوات. فبموازاة الكلفة المادية الهائلة، والجهود المضنية لبناء وحوكمة بنيته وقواعده التنظيمية، تشييد منشآته ولوجيستياته، سيتعين إعداد الصفقات الخاصة بالأسلحة، الذخيرة والمعدات. فضلًا عن بلورة عقيدة عسكرية تضمن تأسيس جيش وطنى يمثل بوتقة صهر للتنوع الإثنى والطائفى. وليس بخاف أن قضية إعادة التسليح، تشكل معضلة ضخمة. خاصة بعدما أجهزت إسرائيل على القدرات العسكرية للجيش السورى البائد، عقب سقوط نظام الأسد. حيث تبرز تحديات عدة بهذا الصدد، من قبيل: توفير المخصصات المالية اللازمة، إيجاد مصادر التسليح، التعاطى مع مساعى دول الجوار الإقليمى غير العربية كمثل إسرائيل، تركيا وإيران، لإعاقة جهود تسليح وتحديث الجيش السورى الجديد.
أما بخصوص إعادة بناء وحوكمة الهيكل التنظيمى، فقد وضعت السلطة الانتقالية بقيادة، أحمد الشرع، على رأس أولوياتها تشكيل جيش وطنى وحيد وموحد، يضم جميع الفصائل الثورية. لذا، عقد الشرع، فى 24 ديسمبر، اجتماعًا موسعًا ضم أغلب قادة وممثلى أكثر من خمسة عشر فصيلًا. جرى خلاله التوافق على  حلّ جميع الفصائل المسلحة، توطئة لدمجها تحت مظلة وزارة الدفاع. وقبلها بأسبوع، أكد، الشرع، إلغاء التجنيد الإلزامى فى.الجيش، باستثناء بعض الاختصاصات، ولمدد محددة. بدوره، أكد رئيس الحكومة الانتقالية محمد البشير، أن وزارة الدفاع الجديدة ستشمل الفصائل المسلحة التى كانت معارضة لنظام الأسد، كما الضباط المنشقين عن الجيش أثناء حكمه. وقد أصدرت إدارة العمليات المشتركة عفوًا عامًا عن جميع العسكريين المجنَّدين تحت الخدمة الإلزامية.
يحظى مسعى نزع سلاح الفصائل السورية ودمجها فى جيش وطنى، بتأييد دولى جارف. فإبان زيارتها لدمشق، أكدت المبعوثة الأمريكية إلى سوريا، باربرا ليف، إن الظروف التى نشأت فى كنفها القوات الكردية، لم تعد موجودة .وأثناء زيارتها لتركيا، بالتزامن، طالبت وزيرة الخارجية الألمانية، بيربوك، بحل جميع الميليشيات، ودمج قوات "قسد" بالجيش السورى الجديد.
رغم الحماس المحلى والترحيب الدولى، ترفض فصائل سورية نزع سلاحها والانضواء تحت لواء الجيش الجديد. لعل أبرزها: "قسد"، الدروز، وبعض القبائل العربية، إضافة إلى فلول النظام السابق. وليس سرا أن إسرائيل تتواصل مع أولئك الممانعون. فمن جانبها، أبدت "قسد"، استعدادها، من حيث المبدأ، للانضمام إلى أى جيش وطنى يُشكل بإرادة سورية خالصة، بمنأى عن محاولات فرض الهيمنة، أو الوصاية الخارجية على القرار السورى. بيد أن قائدها، مظلوم عبدى، أبدى استعداده لنقل مسئولية أمن الحدود إلى السلطات الجديدة فى دمشق، بعد الاتفاق على "صيغة مناسبة" عبر التفاوض. كما وضع شروطا من قبيل: بناء دولة ديمقراطية، ذات سيادة تامة، لا مركزية، ينعم فيها جميع السوريين بمختلف طوائفهم، دياناتهم وأعراقهم، بتمثيل عادل. صياغة دستور يضمن حماية حقوق المكونات كافة، وتشكيل حكومة تتيح تمثيل جميع الأطراف. وفى هذا السياق، أدانت "قسد" حرق شجرة الكريسماس، والاشتباكات مع العلويين، مشددة على ضرورة احترام التنوع.
ربما لا ترغب "قسد" فى فقدان مكتسبات استراتيجية حصلت عليها مثل الإدارة الذاتية، والتشكيلات المسلحة، التى تحمى تلك المكتسبات. ولعلها تريد استلهام تجربة البيشمركة الكردية العراقية، التى احتفظت بسلاحها وتشكيلاتها، متحدية قرار حل الجيش العراقى والتنظيمات المسلحة، عام 2003. حيث تعتبر قدراتها العسكرية، درعًا واقية لمكتسبات إقليم كردستان العراق.
بينما غابت فصائل شتى عن اجتماع الشرع، أبرزها «قسد»، وفصائل درعا المسلحة؛ أوضح «جيش سوريا الحرة»، الذى ينشط فى البادية، بدعم من التحالف الدولى، عدم تلقيه دعوة لحضور الاجتماع. كما أعلنت حركة رجال الكرامة، أكبر الفصائل فى.محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، رفضها تسليم سلاحها، إثر تعاظم مخاوفها حيال الواقع الجديد فى البلاد.
يلف الغموض مصير عناصر الجيش السابق، لا سيما المتطوعين منهم. وما إذا كان سيتم دمجهم فى.الجيش المزمع تشكيله. وحسنا فعلت الحكومة الانتقالية، إذ فتحت باب التسويات المؤقتة أمامهم، لتسليم ما لديهم من سلاح، مقابل الحصول على بطاقة مؤقتة مدتها ثلاثة أشهر، تخولهم التنقل داخل البلاد، وتعفيهم من المساءلة خلالها. وبينما لا توجد أرقام، يمكن الوثوق بها، حول أعداد قوات النظام المخلوع، سواء المتطوعين منهم، أو أصحاب الخدمة الإلزامية. يرفض عدد من الضباط، حتى اللحظة، تسليم سلاحهم، بينما تلاحق عدد كبير منهم اتهامات باقتراف انتهاكات، خلال سنين الثورة.
تفصح السوابق العربية لجهة برامج نزع السلاح، التسريح وإعادة الدمج للميليشيات والفصائل المسلحة، فى الجيوش النظامية، عن فشل مفجع. ففى العراق، تعهد رئيس الوزراء الحالى بإنهاء ظاهرة السلاح المنفلت خارج نطاق المؤسسات الشرعية. وأطلقت وزارة الداخلية بداية العام2024، مشروعا لـ"حصر السلاح فى يد الدولة"، يتضمن تسجيل الأسلحة وشراءها من المواطنين لمدة عام. وهو المشروع، الذى عملت الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ عام 2005 على إنجازه، دون أن تحرز تقدمًا ملموسًا. وبعدما أشرفت المهلة المحددة على نهايتها، أعلنت الوزارة تمديدها لعام جديد. وبينما لا تفصح الوزارة عن نتائج المشروع، أكد مسئولون ومراقبون أنها لم تلامس المأمول.
تتجلى معوقات نزع سلاح، تسريح وإعادة دمج الميليشيات فى الجيوش العربية، فى: غياب التوافق السياسى والأمنى بين القوى الوطنية، تعثر جهود التنمية الاقتصادية، استعصاء إرساء سيادة القانون وتحقيق العدالة الانتقالية. حيث تتسبب أجواء عدم اليقين الناجمة عن تلك المعوقات فى «معضلة أمنية»، يجسدها عزوف فصائل مسلحة عن نزع سلاحها، مخافة فقدان مكتسبات استراتيجية فصائلية. فبغض النظر عن كونه سبيلًا للارتزاق، أضحى الانخراط فى الميليشيات والفصائل المسلحة، بالعديد من الدول العربية، التى تمزّقها النزاعات والاضطرابات، ثقافة راسخة، تكتسب معنى وجوديًا. كما يكابد برنامج نزع السلاح، التسريح وإعادة الدمج، إشكالية الدعم السخى، الذى يغدقه الرعاة الأجانب على العديد من الفصائل، الميليشيات والعشائر. فلعل هذا ما يشجعها على رفض ما أسماه الباحت الأمريكى روى ليكليدر، «الالتزام المكلف». أى القبول بحل نفسها، نزع سلاحها والانضواء تحت لواء جيش وطنى وسلطة مركزية، بما يفقدها مزايا ميليشياوية ومكتسبات فصائلية.
على مخاطر شتى، كمثل: إعادة تأجيج الصراع المسلّح، تكريس التشرذم، تعزيز السلطوية، الارتداد إلى العمل الميليشياوى الفصائلى؛ ينطوى برنامج تطوير ما يسمى «نماذج الأمن الهجين للحوكمة الأمنية». ذلك الذى ينظم استيعاب المجموعات المسلحة ضمن المنظومة الأمنية، بالدول العربية المتصدّعة، التى انهارت جيوشها، فيما تديرها حكومات مركزية ضعيفة أو متهاوية.
لأجل ضمان نجاعة واستدامة هكذا برنامج، يتعين على قيادات الفصائل، قواعدها، ورعاتها الأجانب، التسليم بالاندماج فى الجيش الجديد. كما يجدر بالسلطات الجديدة إعداد برامج تأهيلية، تكفل تطمين القلقين على مستقبلهم؛ عبر إعادة تأهيلهم ودمجهم اقتصاديًا؛ من خلال التعليم، التدريب المهنى، تمويل مشاريع تنموية. مع ضرورة إعادة توجيه الولاءات من الفصائل وقياداتها، إلى الدولة الوطنية وسلطتها الشرعية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved