«الحلم البعيد».. لعبة الواقع والخيال!
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
الخميس 31 يناير 2019 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
أستطيع بدون مبالغة أن أضع الفيلم المصرى الألمانى المدهش «الحلم البعيد»، من إخراج مروان عمارة ويوهانا دومكى، بين أفضل وأذكى ما شاهدت من أفلام تسجيلية خلال السنوات الأخيرة. رغم المادة الجيدة التى جمعها الفيلم عن شخصياته، وهم شباب وفتيات يعملون فى قرى شرم الشيخ التى عانت من ضعف السياحة، إثر حوادث الإرهاب، إلا أن روعة هذا الفيلم بالأساس فى معالجته، وفى الطريقة التى سردت بها هذه القصص.
الحقيقة أن جوهر الفن عموما فى الطريقة التى تقول بها، وليس فى المادة التى تنقلها، بدليل أن الموضوع فى فيلم «الحلم البعيد» يمكن أن يكون مادة لأى برنامج إخبارى يبعث على التثاؤب، يترك فيه المعد والمخرج الكاميرا للمتحدثين، مع بعض اللقطات لشواطئ شرم ليلا ونهارا، وربما لا تستطيع أصلا أن تصمد لاستكمال مشاهدة هذه الثرثرة الكلامية، فلا تؤثر فيك، ولا تتأثر بها.
ولكن فيلمنا اعتبر أن الحكايات مجرد مادة يعيد تشكيلها، بهدف أن نعرف أكثر الإنسان الذى نراه، والمكان الذى يعيشون فيه، المعالجة هنا تجعل من أصحاب الحكايات أبطالا لدراما واقعية، المادة حقيقية، ولكن طريقة البناء والتناول درامية، هناك مشاهد تمثلها الشخصيات، الواقع حاضر وبقوة، ولكن الرحلة أيضا عن الحلم والخيال، أما الصراع فى الفيلم فهو نتيجة هذه المسافة بين خيال وأحلام الشخصيات، وبين واقعها عندما أصبحت القرى خاوية، كما ينشأ الصراع بسبب عالم جديد تمثله تلك القرى، وعالم قديم جاءوا منه، بكل الاختلافات المتوقعة فى القيم والتقاليد.. إلخ.
ليست ــ إذن ــ الحكاية عن هؤلاء العاملين فحسب، ولكنها دراسة عميقة عن جيل بأكمله، وعن مدينة أقرب إلى الحلم والخيال والسراب، لذلك يتعمد الفيلم أن يمزج بين مشاهد عفوية، وأخرى قامت الشخصيات بتمثيلها، وكأن الخيط بين واقع الشخصية، وحلمها، قد انمحى تماما:
الفتاة التى جاءت لتنضم لفريق الترفيه، ترسم على وجهها ابتسامة ثابتة، مثل قناع الممثل، وشاب يقول إنه يحلم فعلا أن يكون ممثلا، وشاب آخر مهمته فقط أن يصبغ جسده بالطلاء، ليبدو مثل عازف للجيتار، أى يقوم حرفيا فى الواقع بدور تمثال، وشاب آخر تزوج من سائحة أكبر منه، ونراه وهو يتكلم تليفونيا مع أسرته وابنه، وكأنه يؤدى دورا فى مسلسل عربى، بل إن أحد الشباب يقول حرفيا إن قصة حبه الفاشلة تشبه بالضبط قصص الأفلام العربية القديمة.
المعالجة الخلاقة للمادة، والمزج بين ما هو خيالى وحقيقى (مثلا؛ عملية المساج لسائحة من لحم دم تتحول بعد قليل إلى مساج لدمية امرأة)، وحوار الشخصيات مع رجل يرتدى زى القرد، واقتناص لحظات خاصة لهم من قلب واقعهم، كل ذلك جعل معنى الحكايات أعمق، وكأننا فى مكان منعزل، بين الواقع والخيال، شخصياته عالقة بداخله، فلا هى تستطيع ترك مصر، رغم الطائرات التى تظهر فى السماء، ولا هى تستطيع العودة إلى المكان الذى جاءت منه فى الأقاليم أو القاهرة، رغم أن القرى تخفض الرواتب، ورغم أن العاملين لا يفعلون شيئا، لعدم وجود سائحين!
أدى تطوير الفكرة إلى الكشف عن تناقضات المكان والبشر والطبقات والأخلاقيات، ومن القرد المتكلم إلى الديناصورات، ومدن ألف ليلة، يبدو الحلم بعيدا مع أنه يحيط بالجميع، ثم تترجم الصورة كل ذلك:
الغربان تنعق، ومشاهد الغروب تسيطر، وكلمة paradise تظهر مقلوبة، وأبطالنا فى متاهة مثل «سافارى» لم يتم، لا فرق بين أن تكون عامل مساج، أو صانع ترفيه، أو مشغل دى جى، أو تمثالا صامتا، الكل يمثل، والكل يتغير، ولكن لا أحد يخرج أو يغادر.
لا يذكر الفيلم بالتحديد سبب هذا الفراغ السياحى، نستنتج أنه بسبب حوادث الإرهاب، أعتقد أن الفكرة أبعد من حادث بعينه؛ لأن فيلم «الحلم البعيد» يتساءل بمكر ودهاء: ماذا لو فشل الواقع أن يستجيب للحلم؟ الإجابة: سيصبح الإنسان عندئذ معلقا فى الفراغ، مجرد طاقة معطلة، مثل ذلك الجالس لمراقبة حمام سباحة، ليست فيه قطرة مياه واحدة!