المَلعَب

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 31 يناير 2025 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

شَاهدت منذ أسابيع قليلةٍ الجزءَ الثاني من فيلمِ "الحرِّيفة"، ولم أكن قد اطلعت على جزئِه الأول ولا عرفت ما يتضمَّنه الحدَثُ الرئيس؛ لكن الآراءَ التي أفضى بها بعضُ الأصدقاء والصَّديقات، شَجعتني على الذهابِ إلى السِينما بعد طولِ انقطاع؛ خاصةً والمَوضوع المَطروق بحسب ما سَمعت خفيفٌ مُجرَّد من النكد والكآبة، ويُمكن التعامُل معه كفاصلٍ قصير لا يضُر ولا يُزعج.
• • •
يدور الفيلمُ حول مَجموعة من الشباب الذين يَحصدون جائزةً كُبرى في مسابقة لكرةِ القدمٍ الخُماسية، ثم يقرِّرون أن ينشئوا بقيمة الجائزة الماديَّة مشروعًا رياضيًا؛ يتكوَّن من مَلعب مُجهَّز يستأجره الراغبون. تأخذهم الحياةُ تدريجيًا واحدًا بعد الآخر، فيتفرَّقون ويُهملون المَشروع؛ وإذا به يُحقِّق خسائرَ مُتوالية بعدما كان رابحًا، وإذا بالأمور تتعقَّد وتتشابك ويتسع الشقاقُ بينهم؛ إلى أن تحدثَ الانفراجةُ، وتعود أواصر الصَّداقة القوية فتجمعهم من جديد وتدفعهم للعمل بجَدٍّ على إنقاذ حلمهم المُشترك، وأخيرًا ينجحون في مساعيهم، فيتوسَّع المَشروع ويَجد المُمَوِّل المناسب الذي يُضاعف من عدد المَلاعب. الفيلم يحملُ في مُجمَله فكرةً طريفة؛ وربما يَعيبه الدَّفع ببعض الرَّسائل السياسية التي لم يكُن لها تمهيدٌ مُقنِع، إضافة إلى التطويل في مشاهد لا تحتمل المَطَّ، والتسرُّع في صياغة النهاية السَعيدة التي تَفوقُ التوقُّعات، وعلى كل حال يُحسَب لصانعيه تقديم مُحتوى مُختلِف ومُميَّز، غير مُعبأ بأمراضٍ وعِلل اجتماعية مُبالَغ فيها على غرار الصَّيحة الحديثة التي راجَت في كثير الأعمال الدراميَّة.
• • •
لا تقتصر المَلاعبُ على كونها ساحاتٍ مُصمَّمة كي تُمارَس فيها الرياضات المختلفة؛ إنما هي أيضًا ساحاتٌ مَجازية. هناك مَلعب السِّياسة الذي يعرض فيه اللاعبون مُناوراتهم على أعظم ما يكون، وهناك ملعب الفنّ الذي يتنافس في رحابه المُبدعون؛ بل أن الحياة نفسها ملعبٌ كبير؛ يزدحمُ بفرقٍ جماعية وأفراد، يزاول كلٌّ منهم ما تيسَّر من حركات عساه يحصد فوزًا أو يتجنب أذى، أو يصل إلى برِّ الأمان دون أن يتكبَّد خسارة.
• • •
المَلعَب اسمُ مكان من الفِعل لعِب، الفاعلُ لاعبٌ والمَفعول به مَلعوب، وإذا مرَّر أحد أعضاء الفريق الكرةَ لزميله بحِرفيَّة عالية؛ علَّق الجُمهور: مَلعوبة، في إشارة لمهارته اللافتة، أما إذا خدع واحد الآخر وأوقع به؛ فمناسبة كي يتحاكى الناسُ عن المَلعوب الذي قام به ومدى إحكامِه.
• • •
في شارع سَكنيَّ هادئ؛ ظَهَر إذ فجأة ملعبٌ لكرةِ القدم. احتلَّ المنطقةَ الوُسطى بين صَفيّ البناياتِ المُتناسقة، على أنقاضِ حديقةٍ كانت ذات يوم عامرةً بالأشجارِ والنباتات. أُحيطَ بسور عالي من السِّلك، وزُوّد بكشافاتٍ قوية وصارخة. قيلَ إنه سيُؤجَّر للفرق التي ترغبُ في إقامة مباريات بينها، ولم يفهم السُّكان كيف تكون الأوضاع في بيوتهم؛ مع وجود مُشجّعين يَصيحون ويَهتفون ويُصفرون، بينما هناك نيامٌ وطلابٌ وأشخاصٌ قد اختاروا هذه البقعة السَّاكنة المُريحة دون غيرها؛ كي يحظوا بمُتعةِ الاسترخاء، وينأوا عن الضَّجيج الذي صار طبعًا دامغًا في كل مكان.
• • •
لي من المَعارف من لم يكُن مقتنعًا -كحال أغلبِ الناس- بفكرةِ الاشتراك في مَصيف سَنَويّ تُوزَّع وحداته على مَجموعة من الأشخاص، وتقوم إحدى الشركاتِ بتدوير الأمر. ذهبَ في أحد الأيام إلى حَفلِ استقبالٍ ضمن عَددٍ من الزبائن المُحتملين، الذين تمَّ استدراجُهم من أماكن مُتنوّعة؛ وإذا به يُوقّع العقدَ ويَخرجُ مَسرورًا شاعرًا بأنه قد حقَّق مكسبًا كبيرًا. حين عَرف أصحابُه بالأمر جاء التعليقُ المتوقع: لعبوا في دماغه. الَّلعب في الدِماغ كناية عن تغيير رأي أو مُعتقَد كان صاحبه مؤمنًا به إلى حدّ بعيد، ولا يتصوَّر الآخرون أن يُبدِلَه ببساطة إلا تحت تأثيرٍ باهرٍ يُزيَّن المَرفوض ويُعيد تشكيلَ الأفكار بشأنه؛ والعادة أن يستردَّ المرءُ وعيَه ويعود إلى رشدِه بعد فترة قصيرة.
• • •
قدَّم الكوميديان الأعظم نجيب الريحاني فيلم "لعبة السِت" مع تحية كاريوكا في الأربعينيات، والحقُّ أن عنوانَ الفيلم دالٌ على قِصَّته، والسيناريو الذي يتمتَّع بفُرصَة خالصَة للإضحاك، قد تلوَّن بكثير من الإيماءات المؤسية المُحمَّلة بسُّخرية داكنة. الريحاني الذي يَملِك خصائصَ فنيَّة تبقى إلى اليومِ عَصيَّة على التقليدِ والمُحاكاة؛ استطاع على مدار أعوام أن يُقدمَ هذا النوعَ الدراميَّ شديدَ العذوبة، الذي يستجلبُ البَسماتِ ويتركُ غصَّة في القلب ويصنع في الذاكِرةِ بصمَةً لا يمحوها الوقت.
• • •
إذا سَيطَر واحدٌ على الثاني واستطاع تحريكُه بما يُريد؛ قيلَ: جَعله لُعبةً في يده. اللعبَةُ جمادٌ لا إرادةٌ له يستخدمها الناسُ في سياق الترفيه؛ والقَصد أن يتحوَّلَ المَرءُ إلى مَطيّة مُسلية يَسهُل توجيهُها، والحقُّ أن هذه العلاقة لا تنحصر داخل الإطار الفرديّ الذي يُسيطر فيه شخصٌ قويٌّ سَيطرة مُطلقة؛ بل أن ثمَّة دولٌ بأكملها تحركها أخرى وتقود مسارَها؛ وفقًا للمصالح المُشتهاة. الدَّولةُ الُّلعبة تصبح بدورها أضحوكةً، تابعةً لا سَيدة، يرتبطُ اقتصادُها باللاعبين الكبار، فتخطو بأمرهم وتنفذُ ما يُضيرها ويُؤصّل حاجتَها إليهم، وهي لا تُترَك في مَسيرة انحدارها للسُّقوط المُبين؛ إذ وجودها مُهمٌ لاستمرار اللعبة، وبقاؤها وإن في حالِ الضَّعف يُجدد حيويَّة المَلعب وشهوةَ التهديف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved