ترامب وتطهير غزة.. عن الجريمة التى لن تكتمل وسيادة مصر التى لن تمس
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 31 يناير 2025 - 7:10 م
بتوقيت القاهرة
أثارت التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكى دونالد ترامب والتى حث فيها مصر والأردن على استقبال الفلسطينيين «لتطهير غزة» ضجة واسعة فى الشرق الأوسط.
بداية، جاءت تصريحات ترامب فى وقت لم تستقر فيه بعد ترتيبات وقف إطلاق النار فى غزة، ولا تزال المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار التى تشتد الحاجة إليها تنتظر الوصول إلى مئات الآلاف من أهالى القطاع الذين عانوا الكثير منذ أكتوبر ٢٠٢٣.
إن حديث رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عن احتمالية تهجير الشعب الفلسطينى إلى مصر والأردن، وهو الحديث الذى هدد بتقويض قواعد القانون الدولى التى تجرم التهجير وعارضته كل قوى الشعب الفلسطينى ورفضته على نحو قاطع مصر على لسان رئيس الجمهورية ورفضه الأردن على لسان وزير خارجيته، يورط القوة العظمى فى خطر إنتاج المزيد من الاستقطاب وانعدام الثقة وعدم الاستقرار الإقليمى فى الشرق الأوسط عوضا عن العمل البناء من أجل الإنهاء الدائم للصراعات واستعادة مسار السلام بين الجانب الفلسطينى وإسرائيل بما يضمن تنفيذ حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. ومن شأن ذلك الحديث، حال تحوله إلى سياسة أمريكية فعلية، أن يؤثر سلبا على المصالح الأمنية والسياسية للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط والتى يصعب حمايتها دون علاقات إيجابية مع مصر والأردن.
من جهة، تكافئ تصريحات ترامب اليمين الإسرائيلى المتطرف على حرب التدمير التى شنها ضد غزة خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية. وهى تشير أيضا إلى أن الإدارة الأمريكية الجديدة ليس لديها لا اهتمام كبير بحشد المساعدات الإنسانية وجهود إعادة الإعمار لتمكين أهل القطاع من استعادة مقومان الحياة الآمنة والآدمية ولا تعتزم إعطاء الأولوية لجهود الوساطة بين إسرائيل والجانب الفلسطينى للانتقال من ترتيبات وقف إطلاق النار المؤقتة الحالية إلى هدنة طويلة الأمد وإحياء مفاوضات السلام التى ترتكز إلى حل الدولتين وضمانات الأمن للطرفين.
على النقيض من ذلك، تتبنى تصريحات ترامب الهدف النهائى لسياسة وممارسات حكومة اليمين المتطرف فى إسرائيل وهى جعل قطاع غزة منطقة غير صالحة للحياة ومن ثم دفع الفلسطينيين إلى الإذعان للتهجير باتجاه مصر والأردن. وقد سارع وزير المالية الإسرائيلى، بتسلئيل سموتريتش، إلى الإشادة بتصريحات الرئيس الأمريكى والإعلان عن أن حكومة تل أبيب ستعمل فورا على وضع «خطة لتشجيع الفلسطينيين» إما على مغادرة غزة أو عدم العودة إليها، أى السعى لوضع الجريمة المقترحة محل تنفيذ سريع.
من جهة أخرى، وعلى المستوى العالمى، يتناقض التهجير (النزوح القسرى) مع قواعد القانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة الملزمة بشأن فلسطين والتى تعترف بحق شعبها فى تقرير المصير على أراضيه وإقامة دولته المستقلة فى غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وفقا لحدود ٤ يونيو ١٩٦٧ (قبل هزيمة العرب فى حرب يونيو ١٩٦٧ واحتلال إسرائيل للقطاع والضفة وكل القدس). والواقع أن تصريحات ترامب بشأن «تطهير غزة»، إذا ما اعتبرناها بيانا سياسيا، تلغى الحقوق الفلسطينية المشروعة وتشجع جريمة التهجير، وتمثل من ثم انقلابا على عملية السلام فى الشرق الأوسط التى رعتها الولايات المتحدة الأمريكية وبُنيت على مبدأ الأرض مقابل السلام، أى إنهاء الاحتلال الإسرائيلى الذى ينص عليه القرار الشهير لمجلس الأمن الأممى رقم ٢٤٢ (١٩٦٧)، وحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة وفقا لقرارات الشرعية الدولية (بما فيها قرار التقسيم رقم ١٨١ والصادر فى ١٩٤٧) ووفقا لحدود ٤ يونيو ١٩٦٧.
• • •
تُظهر ردود الأفعال العربية، بعيدا عن مصر والأردن، رفضا شاملا لتصريحات ترامب ولاحتمالية تهجير جديد للشعب الفلسطينى وتحايل جديد على حقوقه المشروعة. وعلى سبيل المثال، رد رسميون سعوديون كثر بشكل غير مباشر على ترامب بالتشديد على إن المملكة لن تطبع علاقاتها مع إسرائيل (والتطبيع بين السعودية وإسرائيل هدف معلن لإدارة ترامب الحالية مثلما كان هدفا لإدارة بايدن السابقة) إلا حال قيام دولة فلسطينية مستقلة.
فيما خص مصر والأردن، الدولتان اللتان حثهما ترامب على استقبال المزيد من الفلسطينيين، كانت ردود الفعل هائلة وواسعة النطاق من قبل الحكومات والمجتمع المدنى والرأى العام. لقد رفضت القاهرة وعمان على الفور تصريحات ساكن البيت الأبيض باعتبارها تشكل انتهاكا لسيادتهما الوطنية وإنكارا للحقوق الفلسطينية المشروعة لن تشاركا به، وحثت القيادة السياسية المصرية والأردنية واشنطن على الابتعاد عن الترويج لجريمة وظلم التهجير والعمل المشترك لإحياء مسار السلام والأمن من خلال حل الدولتين. وقد تشابهت التصريحات الرسمية مع افتتاحيات الصحف والمداخلات على وسائل التواصل الاجتماعى فى معارضها الكاسحة لتصريحات ترامب ودعمها الكامل لموقف الرفض الصريح الذى اتخذته الحكومة المصرية والحكومة الأردنية وتغليب الدفاع عن المصالح العليا للدولتين وعن سيادتهما الوطنية وعن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى على كل الاعتبارات السياسية الأخرى.
•••
الشاهد أن لدى مصر والأردن معاهدات سلام وعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل لما تتخل عنها الدولتان العربيتان على الرغم من دماء ودمار حرب غزة، وهو ما يجعل تصريحات ترامب أكثر تحديا للسياسة الخارجية للدولتين ولتفضيلهما للحد من الصراعات والتوترات فى الشرق الأوسط. لقد حافظت القاهرة وعمان على التزامهما الاستراتيجى بالسلام قائما فى الفترة الممتدة من أكتوبر ٢٠٢٣ إلى يناير ٢٠٢٥، أى حين كانت آلة الحرب الإسرائيلية تدمر القطاع وتعاقب سكانه جماعيا وتواصل عنفها فى الضفة الغربية وتهدد أمن الحدود مع مصر والأردن. وبينما اضطلعت القاهرة بدور بناء فى التوسط بين الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى لإنهاء الحرب (مصر)، ساعدت عمان فى احتواء تهديدات حدوث حرب إقليمية موسعة وتقليل احتماليتها. كما أبدت الدولتان عزمهما على العمل مع الشركاء الإقليميين والعالميين لتحقيق الاستقرار فى الأراضى الفلسطينية والتوافق بشأن ضمانات أمن للفلسطينيين وإسرائيل ومن ثم العمل على إحياء محادثات السلام ومسارات التطبيع.
الشاهد أيضا أن الدولتين تمسكتا تقليديا بعلاقات صداقة وتعاون مع الولايات المتحدة ودعمتا بشكل بناء الجهود الأمنية الأميركية فى المنطقة، خاصة خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية. ففى مواجهة تجاوزات إسرائيلية متكررة، عملت مؤسسات الدولة المصرية على التنسيق المستمر مع المسئولين الأميركيين لصياغة وتنفيذ عديد الضمانات الأمنية التى استهدفت خفض التصعيد على طول حدود مصر مع إسرائيل ومع غزة (معبر رفح وممر فيلادلفى منزوع السلاح). أما الأردن، فشارك عسكريا فى الجهود التى قادتها الولايات المتحدة لإسقاط المسيرات والصواريخ الإيرانية التى أطلقت باتجاه إسرائيل فى الهجومين الكبيرين اللذين شنتهما الجمهورية الإسلامية.
ولأن التعاون الدبلوماسى والأمنى مع القاهرة وعمان دوما ما كان جزءا لا يتجزأ من سياسات واشنطن فى الشرق الأوسط، ليس فى مصلحة أحد تعريضه للخطر بفعل تصريحات أمريكية تتماهى مع جرائم اليمين الإسرائيلى المتطرف وتتبنى أهدافه. تحديدا، ليس فى مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية تقويض علاقات التعاون والتنسيق والصداقة التى تربطها مع مصر والأردن من خلال تجاهل حقيقة أن الركيزة الأساسية للسياسات المصرية والأردنية كانت وستظل دائما حماية السيادة الوطنية وعدم قبول أى محاولة للتعدى عليها بفتح بوابات جحيم جرائم تهجير الشعب الفلسطينى ودفعه إلى النزوح القسري. كما أن المصلحة الأمريكية فى استعادة استقرار وأمن الشرق الأوسط تتناقض مع مواصلة تجاهل التطلعات الوطنية المشروعة للشعب الفلسطينى وحقه فى الدولة المستقلة وكون العرب، خاصة مصر والأردن، ليسوا على استعداد لمتابعة مأساة تهجير جديد تطال من هجروا مرارا منذ ١٩٤٨.
•••
أتمنى ألا تندفع إدارة دونالد ترامب دون حكمة أو حصافة سياسية باتجاه تبنى جريمة التهجير التى يريد اليمين الإسرائيلى المتطرف ارتكابها، وأن تفكر واشنطن أكثر من مرة فى أهمية عدم المخاطرة بعلاقات التعاون والتنسيق المستقرة مع القاهرة وعمان وبفرض المزيد من الصراعات والتوترات الإقليمية. فالشرق الأوسط يحتاج اليوم لبناء توافقات جديدة حول فرص الأمن الجماعى وسبل إحياء مسارات السلام والتطبيع، وجميعها ستظل دون فاعلية ما لم تحل القضية الفلسطينية على أساس عادل وشامل وما لم تغب عن الأفق الإقليمى جرائم التهجير والنزوح القسرى وغيرهم.