صافينى مرة


رضوى أسامة

آخر تحديث: الأربعاء 31 مارس 2010 - 10:01 ص بتوقيت القاهرة

 لم يكن عبدالحليم حافظ بالنسبة لى سوى صوت للستينيات أحن إليه، ولا أستند له كمرجعية غنائية فى لحظات الحب، ولكن حينما أخذت أتأمل كلمات أغانيه وأتخيل الأحبة فى حجراتهم يستمعون إليه ويتنهدون من مشاعر الحب الفياضة، ما بين الاشتياق إلى الحبيب أو افتقاد وجوده، أخذتنى صور الأبيض وأسود ليعيدنى إلى الواقع صوت صاخب لعمرو دياب فى أغانى الشريط الجديد تسمعها جارتنا المخطوبة حديثا، وأتخيل صورة بالألوان لها فى حجرتها وهى جالسة على الكمبيوتر وتفعل عشرات الأشياء فى الوقت ذاته، بينما ينطلق صوت عمرو دياب فى أرجاء الحجرة.

تأخذنى فكرة مقارنة كلمات أغانى عمرو دياب وعبدالحليم حافظ، نموذجين لزمن الأبيض والأسود والألوان، وأنا أبحث عن الكلمات على الإنترنت، وجدت أغنية بعنوان «توبة» غناها كل منهما، بكلمات مختلفة لشاعرين مختلفين، بالطبع نذكر أغنية توبة لعبدالحليم، لكن يستوقفنى فيها ذلك المقطع: 
«توبة إن كنت أحبك تانى توبة
بس قابلنى مرة وتبقى دى آخر نوبة وبعدها توبة
توبة إن كنت أخاصمك وأرجع أصالحك تانى
ياما البعد سقانى وياما القرب ضنانى
وإن فات طيفك يوم فى منامى وجه صحانى
برضه أصالحك بس أهى نوبة وبعدها توبة»
وعندما غنى عمرو دياب أغنيته توبة كانت كلماتها تقول:

«اهى مرة وعدت وخلاص حبينا بصدق وإخلاص 
حبيتك من غير تفكير حبيتك والقلب اختار 
وفى بحرك ياما عومت كتير وغرقت فى آخر المشوار 
واهى توبة توبة توبة توبة»

بداية أحب أن أوضح أننى اليوم أخرج من عباءة أى كلام علمى، فقط مجرد تأملات، هل بالفعل شعر أى منكم بأن عبدالحليم أكثر رقة فى حبه، وأنه أكثر غفرانا، من كلمات أغنية عمرو دياب التى يصر فيها أن التجربة انتهت، كلمات عمرو بدت أكثر حسما وعنفا.

يجعلنى ذلك أتأمل فى شكل العلاقات ما بين الماضى واليوم، كان هناك طابع مختلف للعلاقة، هدوءا نادرا، ذلك الهدوء الذى تشعر به فى مكان خالٍ وصافٍ، العلاقات عميقة نحاول ان ننقذها دوما حتى فى اللحظات الصعبة يحاول أن يعيدها إليه بأى شكل، ويبدو ذلك واضحا فى أغنية عبدالحليم «صافينى مرة»، العلاقات الآن تجعلك تتأمل فى ذلك الزمن العجيب السريع، الذى يؤخذ فيه كل شىء بسرعة وروتينية غريبة. لدى صديق عندما أقابله فى كل مرة أسأله عن حبيبته، التى غالبا ما أجدهما وقد قررا الانفصال، العلاقة بينهما متوترة، هى تعجبها بشدة أغنية شيرين الجديدة «وأخيرا اتجرأت وهعلى صوتى عليك»، وهو تعجبه أغنية عمرو دياب «مالك مش خلاص حبيت ناس بقيت معاهم ليه بتسأل ليه ليه عنى من وراهم».

هذا هو الفرق بين الحب فى الستينيات وزمن الأبيض وأسود، وحب هذا العصر الملىء بالألوان الفاقعة.

لست أقصد أننا نفتقد إلى وجود عمق فى علاقاتنا حاليا لكنه شىء نادر الحدوث، أصبح من النادر جدا أن أجد علاقة حب حقيقية دافئة ومستمرة، كما أصبح من النادر أن تجد أغنية تعبر عن ذلك العمق الحقيقى.

لست مع مشاعر الحنين إلى زمن مضى، والوقوع فى براثن النوستاليجيا، أنا مع التوافق مع العصر بكل تحدياته وخلق لحظات حميمية عميقة وحقيقية. رغم عشقى للأبيض وأسود ولصوت مغنى رايق يغنى بمزيكا حلوة وناعمة، فإننى أسعى لاكتشاف أصوات دافئة حديثة وخلق لحظة دافئة فى هذا العصر بكل صخبه وعشوائيته.

عبدالحليم حافظ ليس مجرد صوتا دافئا نحتفى بذكراه، لكنه رمز لحلم لم يعشه أبناء جيلنا رغم أنهم دوما يشعرون بالحنين إليه، وفى لحظات الصفا يدخلون حجراتهم ويبحثون عن أغانيه فى قائمة الأغانى على أجهزتهم ويديرونه بهدوء خالص.

حتى عندما غنى عبدالحليم للوطن، كان نشيدا مختلفا، كان وطنا مختلفا غير الذى نعيش فيه، مثلا عندما أ سمع:

«أحلف بسماها وبترابها أحلف بدروبها وأبوابها
أحلف بالقمح وبالمصنع أحلف بالمدنة وبالمدفع
باولادى بأيامى الجاية ما تغيب الشمس العربية
طول ما أنا عايش فوق الدنيا».

أشعر بوطن آخر نعيش فيه حلما واحدا، لا يمت بصلة لهذا الوطن المفكك الذى لا يملك مواطنوه سوى حلم الحصول على قوت يومهم وما يكفى لعائلاتهم، فلم يعد هناك أحلام مشتركة ولا شمس عربية واحدة.

ربما تأتى هذه الذكرى الآن لتعيد إلينا نسائم زمن جميل ولى وتجعلنا نطل على حاضرنا بنظرة مختلفة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved