عواقب سياسة أوباما فى الشرق الأوسط
العالم يفكر
آخر تحديث:
الخميس 31 مارس 2016 - 8:10 ص
بتوقيت القاهرة
وصل الرئيس أوباما إلى الرئاسة وفى جعبته وعود، بفتح صفحة جديدة وإغلاق فصل من التاريخ الأمريكى شهد حربين فى منطقة الشرق الأوسط الكبير. إن تمسكه بتنفيذ هذا الوعد يثير الإعجاب، وهو نتيجة الدروس التى تعلمها من أخطاء الرؤساء الذين سبقوه وحاول أن يتجنبها، والتى تتعلق باستخدام القوة العسكرية الأمريكية فى الخارج.
لكن المفارقة هى أن إصراره على إغلاق هذا الفصل قاده إلى اتخاذ قرارات فتحت فصلا جديدا يشبه سابقاته إلى حد بعيد. ويمكن أن تُعزى أسباب هذه الحرب الجديدة ضد داعش – أى حرب أوباما ــ التى بدأت فى أغسطس 2014 إلى خطأين فى التقدير. تكشف مقابلة جيفرى غولدبيرغ حول «عقيدة أوباما» أن هذين الخطأين نجما عن إصرار الرئيس على المحافظة على وعوده للشعب الأمريكى وتجنب أخطاء الماضى.
الخطأ الأول كان انسحاب أوباما من العراق – وهذا لا يعنى سحب القوات العسكرية الأمريكية فحسب، بل تراجع الزخم والنفوذ الدبلوماسى، اللذين لو استُخدما بالشكل الصحيح لجعلا وقع انهيار التجربة السياسية العراقية أخف، وكبحا بالتالى صعود داعش. بعد إجراء الانتخابات فى العراق عام 2010 «قبل الانسحاب الأمريكى»، قررت إدارة أوباما اتباع نهج عدم التدخل فى الشئون السياسية الداخلية للعراق، لكنها لم تنجح فى إيجاد بديل للحضور العسكرى الأمريكى هناك بمجموعة صلبة من الشراكات المدنية والاقتصادية وغيرها للمحافظة على النفوذ الأمريكى. فى العام 2011، الذى كان عاما الثانى والأخير من أصل عامين تقريبا أمضيتهما فى العمل على سياسة الشرق الأوسط فى وزارة الخارجية الأمريكية أثناء ولاية أوباما الأولى، كنا نخطط لتخفيض حاد فى عدد البرامج المدنية المخصصة للعراق، يتماشى مع تخفيض الوجود العسكرى. وخلال السنتين التاليتين، خُفضت المساعدات الاقتصادية للعراق إلى ما يقارب 50 بالمائة. وحصلت الإدارة على إنذار مبكر حول الضرر الذى كان يتسبب به سلوك رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى الطائفى المتعطش للسلطة، على أمن العراق واستقراره. لكن الرئيس ونائبه بايدن، الذى كان يدير الملف العراقى بالنيابة عن أوباما، اختارا ألا يفعلا الكثير لكبح جماح المالكى، حين بدأ يفسخ الصفقات السياسية المبدئية المبرمة بين السنة والشيعة والأكراد ضمن العراق الفيدرالى.
•••
استنكر شركاء أمريكا الإقليميون ازدياد النفوذ الإيرانى فى الوقت الذى تراجعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، وخافوا أن تؤجج الخطوات التى أخذها المالكى ضد السياسيين السنة العنف الطائفى، لكن البيت الأبيض تجاهل مخاوفهم فى العراق وسوريا. وهكذا قامت دول الخليج، بإرسال دعمها الخاص إلى العشائر السنية فى غرب العراق وإلى المقاتلين، الذين يحاربون الأسد فى سوريا، ما غذى اللهيب الطائفى ومهد الطريق أمام المتطرفين للاندفاع فى غيهم. وفى الوقت الذى بدأ فيه داعش تحقق نجاحات بين صفوف السكان السنة المنشقين عن الحكومة المركزية، لم ترَ الإدارة أى سبب يدعوها للاستثمار فى إقناع المالكى بضرورة القيام بتسوية سياسية من شأنها تهدئة المقاتلين العراقيين السنة ولم شمل العراقيين من جديد. وهذا لا يعنى أن أوباما كان سينجح فى محاولته – ولكن لأنه أراد طى صفحة التجربة العراقية، لم يقم بالمحاولة.
كذلك، أظهرت قراءة أوباما للصراع السورى، التى افترضت أن آثار هذا الصراع ستكون محدودة على المصالح الأمريكية، الفشل فى تعلم الدروس من التسعينيات وإدراك الخطر من أن تمتد الحرب الأهلية السورية بأشكال تؤثر مباشرة على المصالح الأمريكية. وفى عامين 2012 و2013، لم يكن الأمر يتطلب بصيرة خاصة لتطبيق دروس أخرى من التاريخ على الحالة السورية غير تلك الدروس التى ركز عليها أوباما.
هذان الخطآن فى الفهم والتقدير الناتجان عن التزام الرئيس بتجنب أخطاء سلفه، تركا عددا من المخاطر الكبرى على الأمن الاقليمى دون معالجة، وغذيا بالتالى تنامى تهديد داعش لدرجة أجبرت أوباما فى أغسطس 2014 على قلب خياراته الراسخة وإرسال جنود وأسلحة أمريكية لمحاربة المتطرفين الإسلاميين على الأرض فى العراق، والآن فى سوريا. هذا وقد دفعت أخطاؤه «ناهيك عن تنازله عن «الخط الأحمر» الشركاء الإقليميين القلقين إلى أخذ مبادرات خاصة بهم، للحفاظ على مصالحهم التى شعروا أن أوباما يتجاهلها – متغاضين فى بعض الأحيان عن خطر الجهاد، الأمر الذى أدى إلى استفحال الفوضى والطائفية اللذين يتغذى عليهما داعش.
خاف أوباما من الانزلاق إلى حرب ضد بشار الأسد – لكن الحرب ضد داعش هى المنزلق الأخطر. فى خلال أقل من عامين، انتقلت الإدارة من الضربات الجوية إلى إرسال أكثر من 475 مستشارا عسكريا إضافيا إلى العراق وأكثر من 4,000 مقاتل من القوات البرية، شملت قوات العمليات الخاصة فى كل من العراق وسوريا. وفى نفس الوقت، أجبر تهديد داعش المنتشر أوباما على إصدار أوامر بتنفيذ ضربات جوية محدودة فى ليبيا، وعلى التفكير فى وضع خطط تشمل المزيد من التدخل العسكرى هناك، وبناء التزامات عسكرية مع الدول العربية السنية فى الخليج– الخطوتان الأخيرتان، إذا كانت مقالة غولديبرغ دقيقة، يفعلهما الرئيس ضد قناعاته الشخصية. وها هو الرئيس الأمريكى الذى رفض فى مايو 2013 شعار «حرب عالمية ضد الإرهاب» قد شن واحدة الآن.
فى هذه الأثناء، إن الهوة الواسعة التى تفصل بين إصرار أوباما على هزيمة داعش وتركيز شركائه الإقليميين على إبعاد إيران والأسد، تعنى أن أمريكا وجدت نفسها مع عدد قليل من الشركاء يشاركونها عبء هذه المعركة، التى يطلق عليها الجنرالات الأمريكيون الآن اسم «صراع يستمر أجيالا». يسعى أصدقاء أمريكا الإقليميون للدفاع عن مصالحهم التى لا تنسجم دائما مع المصالح الأمريكية. إن عجز أوباما الواضح عن رؤية الصراعات بين سياسته فى سوريا وسياسته ضد داعش، وتحفظه عن مواصلة العمل اللازم لمناقشة الأولويات المشتركة مع عرب الخليج وتركيا وإسرائيل، تمخض عن مشكلة أكثر تكلفة، وأصعب على الحل من المشكلات البسيطة التى كان يتذمر منها. الثمن بات واضحا ونذكر هنا على سبيل المثال، تسهيل أوباما الصامت لحرب السعودية فى اليمن – التى للمفارقة أيضا قدمت للقاعدة فى الجزيرة العربية أفضل بيئة للعمل والتقدم منذ سنوات.
•••
أخيرا، فإن تصرفات أوباما – أى تردده فى استبعاد المالكى، وارتباكه أمام ما حدث فى مصر فى 3 يوليو 2013، والآن عودته إلى شراكات أمنية غير مدروسة مع دول الخليج بحجة قتال داعش – تشير إلى أنه لا يخاف فقط من التورط العسكرى، بل من أى نوع من التورط، أو أى استثمار غير مضمون للنفوذ الأمريكى، يسعى إلى تحقيق نتائج فى مناطق لا تتماشى مصالحها المحلية مع مصالح واشنطن. هذا واضح من خلال تخليه عن أى جهد غير عسكرى منسق يسعى إلى التوصل إلى استقرار دائم فى الشرق الأوسط بالطريقة التى لا يزال يقول إنها ضرورية. إن تقدير أوباما الاستراتيجى الخاص الذى أعلنه على الملأ فى مايو 2011 وكرره فى مقابلة غولدبيرغ – هو أن الاستقرار فى الشرق الأوسط يأتى فقط من خلال معالجة الخلل الحكومى، لكن بعد الإعلان الأول فى العام 2011، أظهر أوباما القليل من الجاهزية لاستثمار رأس مال سياسى، أو بناء منابر للمشاركة الجادة فى إصلاح الفوضى والاضطراب والنقص الذى غالبا ما يرافق النمو الديمقراطى. بل على العكس.
إنها مفارقة مأساوية: رئيس انتُخب وأُعيد انتخابه على خلفية إنهاء الحروب فى الشرق الأوسط، يصل إلى نهاية رئاسته بنفس النتيجة التى ورثها وشجبها وأقسم أن يتجنبها: حرب متصاعدة ضد عدو إرهابى غامض، لا تُعرف له حدود جغرافية ولا أهداف عسكرية أو استراتيجية، حرب تُشن دون مبادئ أو استراتيجيات توقف التدهور فى هذا المنحدر الزلق.
ترافق تركيز رئاسة أوباما المتصلب على تفادى التورط مع فشل فى احتساب المخاطر – خصوصا تلك الناجمة عن التراخى. يجب أن يكون هذا درسا لنا جميعا، وربما بشكل خاص لأولئك، بعد التدقيق فى الفوضى التى تعم الشرق الأوسط اليوم، الذين يعتقدون أن أوباما كان محقا فى عدم التدخل فى الحرب السورية، وأنه محق اليوم فى الندم على تدخله فى ليبيا واعتباره فشلا.
•••
الدرس هو أن التراخى ليس أفضل من التدخل كخيار أخلاقى فى السياسة الخارجية – إنه خيار، وله عواقب. الولايات المتحدة الأمريكية هى قوة عظمى، قوة رسخت نفوذها العالمى من خلال مجموعة من الاستحقاقات الأخلاقية الكونية. ومن هنا فإن خيارات أمريكا «بأن تفعل أو لا تفعل» لها آثار عالمية، ناهيك عن المسئولية الأخلاقية. لا يمكن للمرء أن يتفادى المسئولية الأخلاقية لهذه الخيارات. وفى حين استمر أوباما فى تذكير غولدبيرغ أن همه الأكبر هو تأثير استخدام القوة على الشعب الأمريكى وليس على مواطنى المناطق الأخرى، فإن الحرب الجديدة على داعش تذكرنا وبقوة أن التهديدات التى تحيق بالآخرين، حين تُترك دون معالجة، فإنها تحط بكل سهولة على العتبة الأمريكية بطريقة يراها المواطن الأمريكى ويشعر بها.
وانطلاقا من ضرورة الخيار والمسئولية الأخلاقية، فإن تأخير وتجنب معالجة المشكلة هو تعبير منافق يعنى عدم الرغبة بحلها.
لهذا السبب، أنا لا ألوم أوباما على إطلاق هذه المرحلة الجديدة من الحرب العالمية على الإرهاب، وأظن أن داعميه الذين صوتوا لوضع نهاية للحروب عليهم أن يفعلوا مثلى. إننى أثنى عليه لأنه أدرك خطورة تهديد داعش على الأمن الإقليمى والدولى، ولاعترافه بأن خياراته التى التزم بها طويلا لا يمكنها أن تقف فى وجه هذا التحدى، ولجرأته فى التقدم من الشعب الأمريكى لشرح أسباب وطريقة قلب المسار. أتمنى فقط لو يعترف بأن تردده وتراخيه فى مواجهة المخاطر ساهم فى الوصول إلى هذه المرحلة، وأن الدروس التى تعلمها بهذا الخصوص من أسلافه كانت ناقصة بشكل محزن.
تمارا كوفمان ويتس