صورة صلاح
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 31 مارس 2022 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
كاتبة هذا المقال لا تحب الكرة ولا تشاهدها ولا تفهم في قواعدها، والمرة الوحيدة التي ذهبَت فيها إلى الاستاد وهي طفلة تملمَلت وزهقَت وكانت تتعجَل صفارة الحكَم إعلانًا لنهاية الشوط الثاني والمباراة. هذا كله حقيقي وصحيح، لكني أعيش في هذا المجتمع الذي ترتبط غالبيته الساحقة برياضة الكرة هذا في العموم، وحين تكون المباراة بين الأهلي والزمالك أو بشكل أخّص حين يلعب المنتخب القومي فالبلد كله يقف على قدم واحدة.
تُحدّد ساعة بدء المباراة ونهايتها حركة المصريين وتنقلاتهم، فهم يريدون أن يكونوا في بيوتهم أو على المقاهي قبل البداية، وهم يهرولون إلى بيوتهم فور انتهائها حتى يلحقون قبل ازدحام الطريق، أما حين يكسب المنتخب فمصر كلها تبات ليلتها في عيد، ويرفرف علَم مصر من الشرفات وترتسم ألوانه فوق جباه الصغار والكبار معًا. إنها مناسبة يتكسّب منها باعة الأعلام وأصحاب المقاهي، ويملأ الأجواء صوت ياسمين الخيّام: المصريين اهمه! وقل في ذلك ما شئت وسمّه ما طاب لك أن تسميه: مبالغة أو حتى جنون، لكن هذا واقع وللكرة مجاذيبها في العالم كله على أي حال، يعني الأمر فيه شيء من العولمة. أما هذه الهِبة الجميلة من الله التي نسميها "صلاح" وتسميها جماهيره حول العالَم "مو" فإن صاحبها هو الأكثر شعبية وتأثيرًا وقربًا من قلوب كل المصريين، سواء مَن كان منهم يحب الكرة أو مَن كان لا يحبها، فمحمد صلاح هو نموذج لإنسان بدون عُقَد، اندمج في المجتمع الذي يعيش فيه ولم يذُب، اشتغل على نفسه كثيرًا وتعلّم حتى صار هذه الشخصية المتفتحة الطلِقة الودودة التي نحبها.
• • •
قبل عدة أيام كنتُ مع وفد من المجلس القومي لحقوق الإنسان في زيارة إحدى دور التأهيل والإصلاح الجديدة التي جرى افتتاحها لتحّل محّل السجون التي يعود عمر بعضها إلى عقود طويلة خلَت. اصطحبنا المسؤولون في جولة بين الوحدات المختلفة للدار، وكان من بينها مَرسَم للموهوبين، رسَم أحدهم امرأة جميلة جدًا عيناها مغمضتان وشعرها كما يصفه نزار قباني "غجري مجنون يسافر في كل الدنيا". ورسَم آخر بورتريه لمحمد صلاح قريب الشبه منه جدًا حتى يكاد ينطق، وجهه مبتسم وشعره أشعث ويرتدي فانلة رياضية حمراء. نحن نرسم وجوهًا نحبها لأننا نشتاق إليها أو لأنها تعطينا الأمل، هل رأينا أحدًا يجلد ذاته ويرسم وجوهًا لا يحبها؟ قد يحدث هذا لكنه الاستثناء. أما تلك الوجوه المحبوبة فلا يهم كثيرًا إن كنّا نعرف أصحابها معرفة شخصية أم لا، وبالتأكيد فإن الشخص الذي رسم وجه محمد صلاح بمهارة لم يلتقِ به في حياته ولا رآه حتى رأي العين، لكنه يحبه وقد يكون يستمّد منه الأمل في إمكانية التغيير والاشتغال على النفس للانتقال من حال إلى حال. لم يطلب أحد من هذا الشخص أن يرسم وجه صلاح، فلن تجد لوحة صادقة تُرسم بالأمر، وصورة محمد صلاح كانت صادقة، بل كانت شديدة الصدق. أكملنا الجولة وقال لنا عرَضًا المسؤول الكبير الذي كان يصاحبنا إن إحدى وسائل العقاب التي صارت تُستخدَم في الدار عند مخالفة القواعد هي الحرمان من مشاهدة الكرة، وأن هذه الوسيلة حين طبّقَت ثبتت فعاليتها! هل هذا صحيح؟ بلى صحيح، تأملتُ كثيرًا في تأثير الكرة حتى فيما وراء الأسوار ولدى أشخاص مقيّدي الحرية، فيالها من مستديرة مكانها الحقيقي في القلوب، ويا لمكانة هذا "الصلاح" من تلك القلوب.
• • •
قبل مباراة المنتخب القومي مع منتخب السنغال للتأهُل للصعود لكأس العالَم كان كل شيء يجري في عالمي كالمعتاد، وبالتوازي مع ذلك كل شيء ينبهني إلى أن حدثًا كبيرًا في الانتظار. حذرتني معاونتي الطيبة من أنها لن تمّر بي مساء هذا اليوم لتلّم الغسيل المبتّل إلا بعد انتهاء المباراة فاليوم سيلعب "صلاح". ذهبتُ إلى ندوة مهمة نظمتها مكتبة الإسكندرية في القرية الذكية في تمام الساعة الثالثة، ولم يكن هناك طوال الطريق مع الزملاء إلا الحديث عن المباراة والحاجة إلى أن ننهي الندوة في وقت معقول بما يسمح لسائق المكتبة بمشاهدتها، وعندما أخذ المتحدثون أماكنهم وبدأَت الندوة بالفعل كانت جملة "الماتش يا جماعة" تتردد في الكواليس. غير مريح أن تشعر أن كل مَن حولك يتعجّلون نهاية حديثك حتى قبل أن تبدأه، لكنها الكرة والمنتخب وصلاح، هذه الثلاثية الذهبية التي يقولون عنها "هاتريك".
• • •
لم يُوّفَق منتخبنا القومي وكل رياضة في الدنيا فيها رابح وخاسر، لكن على الفور انطلقَت التغريدات من الجماعة إياها لتنتقد وتشمت وتهلل وتحلل انعكاسات خسارة المباراة على شعبية النظام، ما علاقة هذا بذاك بالضبط؟ إنه سمك لبن تمر هندي كما يقولون. تضع الجماعة صاحبة التغريدات الصفراء نفسها في خصومة ليس مع النظام لكن مع هذا السجين وتلك المعاونة وذاك السائق ومع ملايين المصريين داخل مصر وخارجها من كل الطبقات والخلفيات ممن كانوا يتمنون أن يبيتون ليلتهم على فرحة. من المعروف إنه عندما لا ينكّت المصريون فهذا معناه أنهم يتألمون، وبعد المباراة مع السنغال لم ينكّت المصريون كعادتهم لكنهم غضبوا وحزنوا وتألموا، وحتى حين حاول البعض تهدئة المشاعر الثائرة للآخرين بمداعبة من نوع: احمدوا ربنا لأنه لو فاز المنتخب لارتفعت الأسعار، لم يضحك أحد، كان المصريون متألمين فعلًا.
• • •
عندما كتب العظيم وحيد حامد في فيلم طيور الظلام عن العلاقة الوطيدة بين الفساد والإرهاب فإنه كان محقًا تمامًا لأن هذا بعض من ذاك: الإرهاب يموّل الفساد والفساد يتعامى عن الإرهاب، لكن عندما تصوّر وحيد حامد في فيلم الإرهابي أن مباراة المنتخب القومي يمكنها أن تؤلف بين قلوب جميع المصريين على اختلاف مشاربهم فيتعانقون لحظة تسجيل هدف ثمين لصالح المنتخب، عندما فعل ذلك فإن تصورّه لم يكن دقيقًا، فها هو المنتخب القومي يخسر أمام السنغال فإذا ببعض المصريين يهلل ويفرح لخسارته.