هذه هى الديمقراطية.. أيضًا
فوّاز طرابلسى
آخر تحديث:
الخميس 31 مايو 2012 - 8:30 ص
بتوقيت القاهرة
ليست الديمقراطية مجرد انتخابات لكن الانتخابات فى الديمقراطية هى الممارسة التى تجسد المبدأ الأساس: ممارسة الشعب حقه فى اختيار حكامه ومحاسبتهم وتغييرهم. يأتى بعد ذلك الباقى والمكمل: المساواة السياسية والقانونية بين افراد الشعب، الحريات والحقوق الاساسية المضمونة فى القانون والمؤسسات، فصل السلطات، انبثاق السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية، تداول السلطة بين حكم ومعارضة...إلخ.
لم تحقق الثورات العربية قسما كبيرا من هذه الاهداف ولا انشأت ما تحتاج اليه من المؤسسات بعد، مع انها تقف امام تحدياتها فى مراحل انتقالية تأسيسية، لا يفترض بها ان تتجاوز العام أو العامين، تجرى خلالها صياغة الدساتير وتشريع الأنظمة الانتخابية الأساسية وانشاء المؤسسات المواكبة.
لكن ما حققته الثورات العربية انها فرضت المبدأ الانتخابى. مصر مثالا.
من اطرف تعريفات الديمقراطية انها تقوم على مبدأ «حق الأكثرية فى الخطأ». لنقل ببساطة: خير ان تخطئ الاكثرية وان تكون لها آليات ومؤسسات ومهل دستورية لتصحيح اخطائها، من عصمة الفرد الحاكم إلى الابد، أو السلالة، جمهورية أو ملكية، أو عصمة العقيدة، دينية كانت ام مدنية. فكيف نسائل أو نحاسب أو نعاقب أو نغير هؤلاء المعصومين؟ ان مشاهد واحداثا وتطورات، ودماء ودمارا ومجازر، طوال فترة العام ونصف العام المنصرمة، هى الجواب.
ما اكثر مثالب الديمقراطية ونظامها الانتخابى.
●●●
لكن لنقِس الخطوات التى تخطوها الديمقراطية الوليدة فى مصر، فنقارن بين الانتخابات الرئاسية المصرية (أو النيابية من قبلها) والانتخابات النيابية السورية. من سمع أو قرأ أو شاهد تحليلا لنتائج الانتخابات النيابية السورية؟ ليس المهم ان خصوم النظام لم يكترثوا للانتخابات النيابية. الأهم ان أنصاره اهملوها هم أيضا، مع انها تتويج المشروع الإصلاحى الشامل للنظام.
الفارق بين المعركتين الانتخابيتين كامن تحديدا فى عنصر المفاجأة. المفاجأة فى الانتخابات النيابية السورية هى فوز حزب البعث وحلفائه. والحقيقة ان المفاجأة لم تكن مفاجأة كاملة لأن وسيلة إعلامية لبنانية فوتت علينا فرحة المفاجأة عندما سربت خبرا يقول ان حزب البعث وحلفاءه سوف يفوزون بالانتخابات!
حصلت تجاوزات عدة خلال الرئاسية المصرية استدعت عددا كبيرا من الطعون. ردت الهيئات المختصة كل تلك الطعون. اما تكريس النتائج النهائية للدورة الأولى فينتظر قرار المحكمة الدستورية حول العزل السياسى المتوقع فى ١١ حزيران. ولا يمكن استبعاد التجاوزات الناجمة عن الضغوط السلطوية والأمنية والعسكرية ولا عن دور المال، وهو الخطر الرئيسى على العملية الانتخابية وعلى الديمقراطية عموما. فى المقابل، هل حصلت تجاوزات فى الانتخابات السورية؟ لسنا ندرى. كل ما سمعنا وقرأنا ان زعيم حزب مرخص حديثا عقد مؤتمرا صحفيا انتقد فيه التجاوزات فى العملية الانتخابية، والدليل، على ما يبدو، هو قلة عدد المقاعد التى حازتها لائحته. وهل لجأ زعيم اللائحة المذكور اصلا إلى أى مرجعية للطعن فى الانتخابات؟ وما هى؟.
●●●
المفاجأة فى الانتخابات الرئاسية المصرية... مفاجآت.
المفاجأة الاولى هى ان التوقعات رجحت ان تكون المبارزة بين عمرو موسى وعبدالمنعم أبوالفتوح، فإذا ترتيب هذين أتى فى المرتبتين الرابعة والخامسة. ويجب القول ان فى الامر اكثر من مجرد ضعف فى استطلاعات الرأى العام.
المفاجأة الثانية هى فى حجم الأصوات التى نالها المرشح أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء حسنى مبارك، الذى ارتكبت فى عهد حكومته معظم أعمال الاعتقال والقتل ضد المتظاهرين السلميين. والأهم ان شفيق، كما تبين اخيرا، كان مرشح الجيش لرئاسة الجمهورية فى وجه محاولة حسنى مبارك فرض توريث ابنه جمال. تكثر الاجتهادات فى تفسير هذه المفاجأة. يمكن ان نستبقى منها اجتهادين. الأول ان حزب الدولة ــ وليس فقط «الفلول»، ما دام الرجل يجمع بين العسكر وبقايا النظام القديم ــ لايزال حزبا قويا فى مصر، يبدأ من شبكات العمدة فى القرى ويمر عبر البرجوازية المتحكمة بالاقتصاد ويتغذى من النفوذ الذى يمارسه الملايين من أفراد البيروقراطية الإدارية وأجهزة الأمن والقوات المسلحة. والتفسير الثانى هو ان الخوف على الأمن والاستقرار، لعب إلى حد كبير لمصلحة شفيق. وهو خوف يحرك قطاعات واسعة من الطبقات الوسطى والوسطى الدنيا، مثلما يحرك قطاعات من الرأى العام تؤثر اللجوء إلى الدولة والحكم القوى خشية حكم التحالف الإسلامى.
المفاجأة الثالثة هى تقلص نسبة أصوات الاخوان المسلمين إلى النصف قياسا لنسبة أصواتهم فى الانتخابات النيابية. مهما حاول قادة حزب الحرية والعدالة التقليل من أهمية هذا الانخفاض فهو يدل على الفارق الكبير بين الانتخابات النيابية (حيث تغلب الاعتبارات المحلية)، والانتخابات الرئاسية، حيث تغلب الخيارات السياسية والوطنية العامة. والانخفاض، من جهة ثانية، مؤشر، قد يكون مؤقتا أو لا يكون، على نفور جمهور لا يستهان به من أداء حزب الحرية والعدالة ذى الأكثرية البرلمانية. ومن أبرز عوامل هذا النفور الشعور بأن حزب الحرية والعدالة يحول التفويض الانتخابى المعطى له لقيادة المرحلة الانتقالية إلى إجازة للاستئثار بالسلطة.
المفاجأة الرابعة، ولعلها الأهم، هى نيل قوى الثورة أكثر من ٤٠٪ من الأصوات إذا ما احتسبنا ما ناله المرشح الناصرى حمدين الصباحى، معطوفة على أصوات عبدالمنعم أبوالفتوح. كشفت الأصوات التى نالها حمدين الصباحى وجود تيار ناصرى جوفى، ظهر بزخم إلى العلن، ما ان رفع غطاء القمع عنه، وأضيفت اليه أصوات جمهور واسع اراد من التصويت للمرشح الناصرى تسجيل تصويت سياسى ايجابى ضد الإسلاميين والفلول فى آن معا. واللافت ايضا فى اداء حمدين صباحى تفوقه من حيث عدد الأصوات على منافسيه فى المدن الرئيسية، وخصوصا القاهرة والإسكندرية والسويس. وهذه ظاهرة اجتماعية ــ سياسية تؤكد الخزان المدينى لقوى الثورة، وهى بذلك عنصر قوتها وضعفها، فى آن معا.
●●●
ليس فى نية هذه السطور التكهن بنتائج المبارزة بين شفيق ومرسى فى الدورة الثانية، خصوصا اننا سمعنا للتو الإعلان الرسمى عن نتائج الدورة الأولى.
كل الخيارات مفتوحة. سوف يتنافس مرشحا الدورة الثانية على السعى لاكتساب اصوات قوى الثورة بمختلف الوسائل. وسوف يضطرب دون شك المقياس لدى تلك القوى فى الاختيار بين السيئ والاسوأ، على افتراض ان التمييز بين سيئ وأسوأ ممكن فى هذه الحالة. هنا تقع نظرية التوازن بين سلطة تشريعية بيد التحالف الإسلامى، وسلطة تنفيذية بيد العسكر التى يجرى الترويج لها بالإشارة إلى النظام السياسى الأمريكى. تنطوى الصيغة على مقدار كبير من السذاجة لأن البرلمان المصرى ضعيف إلى حد بعيد قياسا إلى وزن الجهاز السلطوى برمته. ولا يجوز استبعاد محاولات الطرفين استيعاب قوى الثورة عن طريق صيغة نائبين لرئيس الجمهورية وهو أسوأ مطب يمكن ان تقع فيه تلك القوى.
منذ سقوط حسنى مبارك، واضح ان مصر الثورة تعيش منافسة حادة بين شرعيات ثلاث: شرعية الوضع القائم، شرعية الحركات الإسلامية وقد تكرست بالفوز الانتخابى، والشرعية الثورية. المعركة مستمرة بين القوى الثلاث. لكن الجديد ان قوى الثورة لم تعد مضطرة لأن تحصر نفسها بالضغط فى الشارع والميدان. لقد أحصت قواها، ولعلها فوجئت قبل غيرها بمدى تلك القوة. فبات فى استطاعتها، بل واجبها، التدخل المباشر لتعديل توازن القوى السياسى لمصلحتها. لمصلحة الثورة، أى التعديل الجذرى للنظام المصرى.
ان العودة إلى الميادين لا بد منها. لا يتحقق شىء من دون الضغط الشعبى القاعدى. لكن المؤكد ان ما يوازيها أهمية الآن هو تجميع عناصر هذه القوة الثالثة التى اكدت الانتخابات الرئاسية ضخامة حجمها فى كتلة متآلفة.
لا دروس تعطى هنا. أكدت الانتخابات مرة ثانية ان مصدر قوة حزب الحرية والعدالة انه... حزب. ولا يفل الأحزاب إلا الأحزاب.