سألت مرة صديقا كانت الظروف السياسية قد أبعدته عن بلده طوال سنوات، سألته إن كان يشتاق للبلد فنفى ذلك بشدة. إلامَ أشتاق؟.. قال لى. لم أسأل بعد ذلك، إنما كثيرا ما اجتمعت مع الصديق فى مناسبات اجتماعية ضمت أصدقاء آخرين يعيشون بعيدا عن بلدهم، نمضى فيها نصف الوقت نتحدث عن الأوضاع السياسية عموما ونصفه الآخر نتذكر تفاصيل حياتية فى بلادنا المختلفة. المطبخ والطعام والعادات المجتمعية حول المائدة موضوع كان يتصدر معظم النقاشات. أستغرب أصلا المساحة التى يحتلها الحديث عن أمور يومية لم نكن بالضرورة نعيرها اهتماما حين كنا نعيش فى بلادنا، فترانا نقارن سوق الخضار بين منطقة وأخرى، أو نسهب فى الحديث عن الدكان الصغير الذى يبيع أحسن قشطة فنتذكر الآخر الذى يصنع أحسن لبنة.
***
الصديق غير المشتاق لبلده، والذى كان قد عانى الأمرين حتى بنى حياته من جديد فى بلد مضيف، يدخل المباراة بأناقة من يدخل حلبة على حصان، فيصطف جميع الحاضرين على طرف الحلبة. يأخذنا الصديق فى رحلة إلى مدينته قرب البحر، نمشى معه على الكورنيش ونشترى ذرة مشوية نأكلها أمام الزرقة الممتدة. يحكى لنا الصديق عن أصدقاء الدراسة ممن ما زال على تواصل معهم، يخبرنا عن مدرسة البنات الملاصقة لمدرسة الأولاد فى طفولته، وعن حارس مدرسة الأولاد العجوز الذى كثيرا ما كانوا يهربون من المدرسة على الرغم من وقوفه عند الباب.
***
زرت أخيرا بلدا أوروبيا صغيرا لأسباب مهنية، وكما يحدث عادة فى كل زيارة لى إلى بلد يعتبر متقدما، فقد أمضيت الوقت المتاح لى بين ساعات العمل بالمشى فى شوارع المدينة. استوقفنى كما فى كل مرة أن بإمكان الشارع أن يكون نظيفا، منظما، يمشى فيه الناس على الرصيف الذى تمتد على أطرافه أحواض النباتات. الناس تمشى وكأن الطبيعى هو أن يذهبوا إلى أعمالهم، ثم يأخذوا استراحة الغذاء، فيجلسوا على كراسى فى الساحات العامة يتشمسون ويأكلون وجبة أو يحتسون القهوة. من الطبيعى أن تكون الشوارع منظمة ونظيفة، ومن الطبيعى أن تنمو الزهور البنفسجية والبيضاء فى صفوف منمّقة بين الشوارع.
مؤلمة هى المدن الأنيقة، الجميلة، المدن التى كبرت ووفد إليها كثير من سكان جدد فاستوعبتهم وبقيت أنيقة. مؤلم ما أراه من حرص على سلامة المشاة وسلامة عمال البناء وسلامة سائقى السيارات. مؤلمة لأنها تضع الفرد وسلامته أولا، مع التأكيد أن الشارع للجميع وهو مسئولية الجميع. مؤلمة فيما تظهره من سهولة أن تكون الشوارع عريضة والأرصفة نظيفة والزهور منتشرة والناس هادئين فى يومهم العادى، بالمقارنة مع الحياة اليومية فى بلادنا ومع الشعور فى آخر كل يوم أننا قد نجونا من المرور ومن العنف ومن الظلم أى أننا ربحنا يوما كان يمكن أن يكون عاديا فى بلد متقدم.
***
لو كنت أعيش هناك كنت سأعمل بانتظام وآخذ استراحة الغذاء فى الحديقة الصغيرة. قد أكون على موعد مع أصدقاء فأخرج فى المساء. أو ربما أمضى السهرة فى هدوء البيت وسكون المدينة. لن يكون هناك على الأغلب مكان لزيارة مفاجئة من أخى، أو أن تهاتفنى صديقة لتسألنى، على غفلة، إن كنت أريد الخروج فى نزهة مسائية غير مخطط لها.
***
حيث أعيش، لا رصيف للمشاة وأحواض النباتات قد تزهر أحيانا إنما قد يقطف منها من يستحليها. حيث أعيش، الفرق بين أوقات الدوام وأوقات الاستراحة ليس واضحا، والفارق بين الناس واضح جدا. حيث أعيش لا أملك الشارع، اللهم إلا حين أشعر أن بإمكانى أن أحفر اسمى واسم حبيبى على كرسى عام، أو حين أتعامل مع نواصيه على أنها حاوية قمامة.
حيث أعيش، لا يفرغ البيت ولا أضجر. أحدد مواعيد مع الأصدقاء، لكنها جميعا أيلة لتعديل آنى يجعلنا نلتقى حتى بين اللقاءات المحددة سلفا. حيث أعيش الشىء الوحيد الذى أستطيع توقعه هو دفء من أحب من حولى، ووجودهم معى. الشارع فى فوضى مستمرة، لكننى مع أصدقائى وصديقاتى حول مائدة الإفطار نتكلم عن «جوا وبرا» والفرق بينهما. الوضع الحياتى مرتبك، لكننى ما زلت حول المائدة أنظر فى وجوههم الواحد تلو الآخر فأعرف كم أنا محظوظة. المنطقة كلها تتفجر أو تكاد وأنا أدعى، مع أصدقائى حول مائدة الإفطار، أن لدينا بعض الحلول لاحتواء الأزمات.
***
أتساءل للمرة الألف إن كنت أكثر سعادة هنا أم فى بلد فيها رصيف منتظم وورود ملونة لا تخاف القطف العشوائى فى الشارع. لا أعرف، أو ربما لا أستطيع أن أجيب بحزم، سوى أن ما يربطنى بأى مكان هو مائدة يجلس حولها أناس أحبهم، فيملأون المكان بأحاديثهم وأفكارهم ونقاشاتهم. «عطينى العصير»، أقول، فأقطع حديث أحدهم وهو يروى لنا عن حادثة مروعة حدثت أخيرا بحق مجموعة من الناس كانوا فى طريقهم إلى الدير. نناقش التطورات الخطيرة ونتأسف على بلادنا وعلى ما يحدث من حولنا. «حدا بدو كمان كنافة؟» تسأل إحداهن فندخل فى حديث عن فرق الكنافة فى سوريا عنها فى مصر.
أنظر إليهم وأفكر فى الرصيف الأوروبى النظيف. أسند ظهرى إلى ظهر الكرسى فأرجع قليلا إلى الوراء فى المقعد. أرى فيمن حولى مرساة لحياتى. هنا، حيث الفوضى، هؤلاء هم من يساعدوننى على الثبات فى بحر هائج. أتذكر بيت شعر منثور قرأته مرة لشاعرة سورية شابة قالت: «أحبها تلك البلاد حتى فى خرابها الأخير».