وداعا لبنان الكبير.. والآتى أفدح
مواقع عربية
آخر تحديث:
الأحد 31 مايو 2020 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
نشر موقع على الطريق مقالا للكاتب نصرى الصايغ... نعرض منه ما يلى:
كثير من الكلام، كثير من الخراب. أفدح ما يصيب شعوبا، هو الكلام المبنى على الكذب. اللبنانيون، أفدح الكذابين، فى شتى الميادين. الصدق معجزة لم تحقق بعد. من بدائع الكذب ما يتفوه به السياسيون وبيئاتهم التابعة، والاقتصاديون وخبرائهم الخائبة، ورجال الإعلام وأقلامهم المجيَّرة، ورجال الدين ومقاماته.
أعظم الأكاذيب: النطق الشائن، بأننا دولة، وأن الدولة لبنانية، تُرى متى كان عندنا دولة ومتى كانت لبنانية. جرت العادة فى هذر الكلام، على أن لبنان بدأ تاريخه منذ ثلاثين عاما. كذابون. عمر لبنان مائة عام، وطوال هذا القرن ما كان لبنان دولة، لا فى ظل الانتداب ولا فى ظل الميثاق، ولا فى ظل أفضل الرؤساء أو فى ظل أسخفهم وأدناهم. ولا فى حقبة الفتن ولا فى حقبة الحروب الأهلية، ولا فى ظل الدستور القديم ولا فى رحاب جسور الطائف الذى هجره محرروه ومدبجو مواده.
ولا مرة، لبنان هذا، كان دولة.
تأسس بعد سايكس بيكو، بحدوده الراهنة، لصقا وإضافة وانتزاعا، ليكون وطنا للموارنة، بمعية سنية دونية، وبنبذ متعمد للشيعة. فلبنان لم يولد كدولة، بل هو هبة فرنسية للموارنة، فى مواجهة رفض سنى ومقاومة شيعية مسلّحة… ثم كان ما كان. هجمت البورجوازية المسيحية على البلد واجتاحت المؤسسات. ساحة البرج صارت ملكا لهم. الإدارات بتصرفهم. مفاتيح السلطة السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية والاقتصادية، بزنارهم. حدث ذلك فى ظل الانتداب وفى حمى «الاستقلال» بقيادة الميثاق.
الميثاق لم يُحترم. الوطنى خرق. كل الموارنة جالية فرنسية الانتماء والهوى، والسنة لاجئون وكعبتهم السياسية دمشق، أما الشيعة فكانوا غير مدعوين إلى المائدة، حصتهم فى ذمة السنة.
دلونا: أى دولة كانت هذه الدولة، بل أى نظام؟ بل أى سلطة؟
اخرجوا من هذه الكذبة البلقاء. صحيح أن الدستور كان مكتوبا، ولكنه لم يكن مقروءا ومنفذا. صحيح أن القوانين قد زينت الإدارة والقضاء والمؤسسات، ولكنها زينة فقط. الطائفة أقوى من الدستور والقوانين. زعران الطوائف الزعماء، هم الذين ينفذون مقتضيات المعاملات التى تخص الناس.
كذب. لم يكن عندنا دولة، ولا دويلة، ولا كان عندنا شعب. لأنه لم يكن عندنا مواطن. كان لدينا أحزاب لعائلات ورثت سلطتها من زمن العمال للعثمانيين أو للفرنسيين أو لمزاحميهم الإنجليز.
كانت الشكوى السنية من الاجحاف. طالبوا بالمشاركة. ظلوا هكذا حتى اندلعت الحرب اللبنانية الدولية. الشيعة لم يسمع لهم صوت إلا بعد صعود نجم السيد موسى الصدر. كانت الدفة دائما طابشة لمصلحة المسيحيين، والباقون ينتزعون الفتات.
ثم… ويباهون بلبنان قبل الحرب واتفاق الطائف. كذب. لم يكن لبنان لبنانيا ولا مرة. كان لبنان بعناوين متعادية. طوائفه بانتماءات مضادة متحاقدة متآمرة وغادرة. لبنان كان سوريا لقسم من اللبنانيين، وفرنسيا لقسم آخر. المسيحيون غربيون، المسلمون شرقيون: سوريون مرة، ناصريون مرارا، فلسطينيون كثيرا، بينما اعتصم المسيحيون بالحماية الغربية وحلفائها فى الخليج.
الفراش اللبنانى نامت فيه سفارات وقناصل وبعثات. هو ابن زنى لا وطنى. قاد ذلك إلى انفجار مع مشروع ايزنهاور، ومع حلف بغداد، ومع الوحدة المصرية ــ السورية، ثم، ولما جاءت الحرب، بات لبنان ساحة محلية وإقليمية ودولية، حتى إسرائيل نامت مرارا فى فراش لبنان، فيما كان الأعداء، قد احتلوا مقام الآمرة.
أما الفساد، فحدث ولا حرج. الفارق بين فساد السلطان سليم شقيق رئيس الجمهورية، وبين فرسان الفساد اليوم، هو ليس فى الكيفية بل فى الكمية.
يطنبون فى مدح لبنان قبل الحرب. هذا المدح لتلك الحقبة، هو معزوفة مارونية، لأن لبنان يومذاك، كانت الغلبة الطائفية المارونية المدعومة من بورجوازية شرهة من كل الطوائف. وفى هذه الأثناء، التى تسمى سنوات البحبوحة، كان الريف قد بدأ يزحف إلى المدينة. أحزمة البؤس من الريف أحاطت بالمدن. بيروت، طرابلس، صيدا، إلى آخره. بارت أراضٍ هاجر السكان هربا من فقر ومذلة وجوع. فيا كان لبنان جائزة لحفنة من اللبنانيين، يتهافتون على ما غلا ثمنه وكثر ربحه.
السلطة آنذاك كانت تحت طغيان مارونى، متحالف مع إقطاع سنى وشيعى. فإذا أطعم الغنى، ظن النظام أن أبناءه فى القرى قد شبعوا. كذب. لم يعد فى السهول مزارع، بل أضحت عقارات. شبابنا يهاجر، ونتباهى بلبنان الاغتراب.
فى الحروب اللبنانية، خرَّت الدولة على قدميها. سجدت أمام آلهة الطوائف وشياطينها. تفتت لبنان، ولا تزال خطوط التماس العسكرية، هى خطوط مناطق النفوذ، وحيث الاختلاط مزمن، «فحط ايدك على قلبك». لا تعايش، بل تنابذ، مدعم بخطب وتصريحات هى من صلب حرب الفتنة المتكررة.
لا. لبنان الدولة، ليست على قياس هؤلاء الزعماء وجماعاتهم الراكضة على عماها خلفهم. العصابات لا تصنع دولة. والنافذون عندنا عصابات. قراصنة المال يجتاحون الإدارات والقضاء والفضاء العام والخاص. كما يجتاحون الإعلام العابر للأوطان والمستقر فى أحضان زبانية الايمان المستقيم نزولا.
ويذهلنا، استنكار البعض، لتدخل رجال الطوائف، بمقاماتها العليا والسفلى، فى شئون البلاد. أنهم أصحاب حق. عندهم فيتو. ثم أن التدخل فى السياسة اختصاصهم، ولا مرة كان اختصاصهم دينيا. إنهم فى غاية الوفاء للثراء ودورهم فى البقاء، إلى جانب الزعماء.
من لا دولة عنده، يجب ألا يعجب ألا تكون سلطته سهلة ونظامه متعاف. جرب اللبنانيون صيغا كثيرة للنظام. فالصو. لم تزبط ولن.
أما بعد … هل من حل؟
رجاء، لا تسألوا احدا من زعماء الدهماء. اسألوا ثوار 17 أكتوبر لعلكم تجدون معهم الجواب. لأن لبنانهم لن يشبه لبنان المائة عام من الفشل والمأساة.
النص الأصلى