نظرة على القادم من باب موارب
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 31 مايو 2023 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
قبل ثلاثين سنة كنا نناقش بجرأة سيناريوهات المستقبل واثقين من أن ما فى حوزتنا من معلومات عن تاريخ التطور الإنسانى وتجاربنا لا بد أن يسمح لنا باستشراف ما هو آت إلى درجة معقولة. كثيرا ما تداولنا عابرين شئون الماضى ولم نتوقف يوما عندها إلى أكثر مما تستحق. لا أذكر أن الحنين للماضى كان ملازما فى بحوثنا ولا عضوا مقيما فى دوائر حواراتنا وفى سهراتنا كما هو ملازم الآن ومقيم فى معظم مناقشاتنا. صرنا أشد ميلا لاسترجاع تفاصيل مواقف وسياسات دفنتها الأحداث وهالت عليها التراب. صرنا لأسباب كثيرة أقل شجاعة فى مواجهة المستقبلات أما الجرأة التى تحلينا بها ذات وقت للتعامل مع المستقبل نراها الآن دافعة للكثيرين على الإقدام بدون كثير تردد على تحليل وربما على تشريح الماضى والاستغراق فى استخلاص الدروس والعبر. فاتنا أن أكثرها فقد صلاحيته كمصدر للبناء فوقه، لكنه بقى بالتأكيد مادة دسمة للتسلية ورادعا للملل ومتنفسا لبعض بخار الغضب والاحتجاج.
• • •
يقال إن القادم مختلف جذريا عن كل تجارب الماضى كما عشناه والحاضر الذى نعيشه باستثناء أمر واحد. لا أظن أننا كمراقبين أو دارسين أو سياسيين غافلون عن مغزى السؤال الحاكم فى كل عصور السياسة وهو «لمن الفوز فى السباقات الدائرة هذه الأيام والمتوقعة فى الأيام القادمة؟». السباقات الجارية الآن ليست تطورا طارئا فى العلاقات الدولية. تتغير الدول وتتغير توازناتها وتتغير قياداتها وأنظمة الحكم فيها وتبقى شاهدة عليها وفاعلة فيها المنافسة بينها والسعى الدائب للفوز وتحقيق السبق. نعم عشنا فى الماضى ونعيش فى الحاضر شهودا أو أطرافا فى هذه التجارب المثيرة والخطرة أحيانا، ولكن لا يخفى أن هذه السباقات الجديدة تنحو نحوا مختلفا عن مثيلاتها فى الماضى وعن بعضها، انظر معى:
أولا: ربما أساءت روسيا اختيار وقت غزوها لأوكرانيا أو لعلها تعمدت. نعيش، ويعيش أهل القوى العظمى مرحلة سنوات حدية، بمعنى أن المسئولين عن هذه الدول هم على وعى جيد بأن لا التساهل ولا التسامح مسموح به فى مرحلة وصلت المنافسة بينهم إلى موقع هو الأقرب بين كل السباقات من خط النهاية. والنهاية فى عرف القادة تعنى الخروج من اللعبة السياسية نهائيا، وهو ما عبر عنه الرئيس فلاديمير بوتين بأن الصراع على أوكرانيا ما هو إلا صراع وجود، بعده أو خلاله روسيا تكون أو لا تكون. حرب الغرب فى أوكرانيا ليست حربا باردة أخرى ولن تكون، والصين على علم أكيد بأن هذه الحرب خطوة نحو خطوة أهم وأخطر حين تتواجه الصين والولايات المتحدة ليرسما معا خريطة جديدة للقمة العالمية وبالتالى لأجندة قواعد عمل وسلوكيات جديدة، وحين يتوافق الطرفان أو يتصادمان على الأسس اللازمة لقانون دولى مختلف يخدم مصالح شرائح أوسع من البشرية.
ثانيا: نحن جميعا نجد أنفسنا فى حيرة عندما نتعرض لاستفهامات تتعلق بمفهوم عدم الانحياز ونوع الانتماء له فى عصر قادم مختلفة هياكله وقواعد عمله جل الاختلاف عن هياكل وقواعد عصر سابق أو راهن. يسألون فلا نجيب، إلا بعد تردد. هل يتفق أو يمكن أن يتوافق لولا دا سيلفا البرازيلى مع مادورو الفنزويلى مع بن سلمان السعودى مع خامنئى الإيرانى مع فرنانديز الأرجنتينى مع بورييك الشيلانى مع موسيفينى الأوغندى مع عبدالمجيد تبون الجزائرى مع رامافوزا الجنوب أفريقى. ليست مهمة سهلة تحقيق اتفاق أو توافق بين كل هذه الأسماء بتوجهاتها السياسية ومصالحها أو إنجازاتها وإحباطاتها التنموية وروابطها بقطب دولى أو آخر. ومع ذلك هناك إجماع بين هؤلاء القادة على انتهاج سياسة تبتعد قدر الإمكان عن خطوط تماس وخطوط تضارب مصالح الأقطاب الثلاثة وحلفائهم دون أن يعنى هذا الابتعاد مقاطعة مجمل سياسات هذا القطب أو ذاك من أقطاب القمة، ودون أن يعنى فى الوقت نفسه توقف التنافس داخل مجموعة المنتمين لفكرة عدم الانحياز وإن كان من الممكن فى المستقبل وحال اختيار قيادة لها وضع أجندة لقواعد سلوك وشروط التنافس السلمى بينهم.
ثالثا: عندنا فى الإقليم، وأقصد به العالم العربى، مشكلة تطرح علينا حيرة مماثلة كتلك التى يطرحها المنتمون لفكرة عدم الانحياز. ترددت على مسامعى فى الأيام الأخيرة طروحات تلمح إلى أننا سوف نشهد خلال السنوات وربما الأيام القادمة نزوحا من فكرة وعقيدة الانتماء العربى إلى فكر وعقيدة انتماء أوسع. أسبابهم ومبرراتهم عديدة. أذكر منها الحال الذى انحدر إليه العمل العربى المشترك، ومنها بطبيعة الحال الهجمة الصهيونية الجديدة والشرسة ضد الشعب الفلسطينى وميوعة رد الفعل العربى، ومنها الدعوة الصريحة إلى أن الفوز فى المنافسات الجارية بين الدول العربية يجب أن يذهب للقائد العربى الذى يعيد للخطاب العربى صيغة «نحن» العرب محل صيغة استجدت فى عهود الانحدار، وهى صيغة «الأنا» المتجاهلة كليا الانتماء إلى الجماعة العربية أو الجماعة الإسلامية أو الشرق أوسطية. أدرك شخصيا مثل كثيرين أقابلهم فى مصر وخارجها أن انحدار المكانة التى كانت مصر تحتلها يعود إلى سلوكيات فى السياسة الخارجية المصرية فى العقود الأخيرة جلبت عليها سمعة وأسبقية «الأنا» قبل «نحن» وفى الغالب الحلول محلها. لعلى لا أبالغ حين أجد نفسى متأملا فى أحد أهم أسباب انحدار المكانة الأمريكية وهو احتلال الأنا الضيقة الموقع الأهم فى استراتيجية الولايات المتحدة الخارجية على امتداد فترة الهيمنة ومقارنا إياه بمثيله فى الحالة المصرية.
رابعا: استجد تطوران كلاهما بث الرعب فى قلوب بعض الناس والأمل فى بعض آخر وأقرأ الآن عن اهتمام شديد من جانب مسئولين فى الثقافة والصناعة والأعمال والسياسة والعمالة والاستراتيجيات الدفاعية والأنشطة المتعلقة بالأمن القومى وغيرها من الأنشطة والقطاعات، كلهم مهمومون أو مرتبكون أو مقبلون بنهم. التطور الأول يقع تحت عنوان الذكاء الاصطناعى وما ولده بالفعل ويولده كل لحظة من استخدامات لهذا الإنجاز الخارق للعادة. التطور الثانى يتعلق بأول وآخر ما تفتقت عنه قضية سخونة المناخ وأقصد الزيادة المتتالية فى معدلات ذوبان الجليد فى منطقة القطبين الشمالى والجنوبى. إن استمرت الزيادة فالمتوقع أن تهرع الدول المجاورة والقريبة وبعضها دول عظمى لاحتلال مناطق يقال إنها زاخرة بثروات هائلة من المعادن والطاقة.
كلاهما، ذوبان الجليد أو انحساره عن مساحات كبيرة فى المناطق القطبية، واطراد البحث فى مجالات الذكاء الاصطناعى وبخاصة احتمال انتقال المبادرة من الإنسان إلى الآلة التى اخترعها بنفسه وهذبها وطورها، كلاهما فتح أبوابا جديدة للمستقبل وتركها مشرعة.
صار محل شك أغلب مشاهد المستقبل التى بذل فى إعدادها وتدقيقها علماء التخطيط التنموى والعسكرى جهدا عظيما واستثمروا فيها مالا وفيرا. هناك على بعد غير بعيد تقف فى انتظارنا أيام لا عهد لنا بمثيلاتها ولا عهد لها بثقافتنا وتطلعاتنا وسلوكياتنا وعقائدنا.