حتى لا تضيع الفرصة
فاروق جويدة
آخر تحديث:
الأحد 31 يوليه 2011 - 9:20 ص
بتوقيت القاهرة
فى وقت واحد كان المصريون يحتفلون بثورتين وإن اختلفت الطقوس والمظاهر.. كانت الاحتفالات بالذكرى 59 لثورة يوليو.. وكانت المواجهات الدامية فى ذكرى مرور ستة أشهر على انطلاق ثورة 25 يناير.. وما بين يوليو 52 ويناير 2011 تبدو مصر البقرة الحلوب التى سرقها الأفاقون والمرابون واللصوص. وها هى تقف اليوم عاجزة عن مواجهة تحديات عصر لا يرحم أمام ظروف اقتصادية صعبة، وعصابات نهبت وطنا، وفرطت فى كرامته، واستباحت تاريخه، وأفسدت أخلاقياته.. ما أكثر الفرص الضائعة فى حياة المصريين بسبب مجموعة من الأشخاص الذين استباحوا وطنا، وأهدروا كل قيمة فيه..
هل نتوقف عند الفرص الضائعة فى ثورة يوليو.. أو الفرص الضائعة فى مشروعات بناء مصر الحديثة فى الصناعة والزراعة والإنتاج.. أم نتوقف عند الفرص الضائعة فى انتصار أكتوبر.. أم أكذوبة السلام مع إسرائيل.. أم نتوقف عند الفرص الضائعة فى بيع أصول الدولة المصرية فى مأساة الخصخصة.. أم نتوقف عند مسلسل توزيع ثروات وطن على مجموعة من الأشخاص.. وهل بعد ذلك كله، يمكن أن تلحق ثورة 25 يناير بهذا المسلسل الدامى من الفرص الضائعة.. هل يأتى يوم بعد عشر سنوات أو بعد عشرين عاما يجلس فيه شباب هذا الجيل الذى قدم دماءه لهذه الثورة لكى يبكى على عمر ضاع، ووطن تبددت ثرواته وسقطت هيبته..
عندما نراجع صفحات التاريخ سوف نتذكر المبادىء الستة التى جاءت بها ثورة يوليو، وفى مقدمتها حلم لم يتحقق وهو الديمقراطية وحقوق الإنسان.. وعشنا سنوات طويلة وهذا الحلم يداعبنا جيلا بعد جيل، وضاعت الفرصة ولم يبق من ثورة يوليو غير ذكريات المعتقلات والسجون.. فى بداية الثورة كانت سجون الإخوان المسلمين والشيوعيين ومعاركهم مع عبدالناصر.. وفى منتصف عمر الثورة أطاح السادات بكل ما حصل عليه المصريون من مكاسب فى عهد عبد الناصر، وملأ سجونه بالناصريين والشيوعيين، واختتمها بأن سجن الشعب كله.. وبعد ذلك جاءت الكارثة الكبرى، والتى تجسدت فى ثلاثة عقود تم فيها اعتقال الشعب المصرى كله، وسجن إرادته، ونهب ثرواته، وخروج مصر من كل المعادلات السياسية إقليميا وعربيا ودوليا..
وضاعت على الشعب المصرى فرصة أن يكون شعبا حرا طوال ستين عاما أمام سلطات القهر والاستبداد وإن تغيرت أشكالها..
كان سقوط منظومة الديمقراطية أول وأكبر خسائر الشعب المصرى فى ثورة يوليو. فقد ترتب على ذلك نتائج خطيرة، لعل أخطرها وأسوأها هو امتهان كرامة الإنسان المصرى صاحب التاريخ العريق فى سجل الحضارات الإنسانية..
كان من الممكن أن يغفر المصريون خطايا إجهاض الديمقراطية أمام بعض المكاسب التى تحققت لهم مع ثورة يوليو على المستوى الاقتصادى والاجتماعى والإنسانى، إلا أن هذه المكاسب تلاشت مع نكسة 67 وما تلاها من إحساس بالعجز والهوان.. ثم كانت بوابة الانفتاح الاقتصادى التى أطاحت بكل مكاسب المصريين من ثورة يوليو..
لم يترك الرئيس السادات شيئا يذكر المصريين بعبد الناصر، فكان الهجوم الضارى على فقراء مصر، حين تم توزيع القطاع العام على عدد من الأشخاص فى صفقة غريبة ومريبة أطاحت بالمنظومة الاجتماعية التى شيدتها الثورة للطبقات الفقيرة..
وجاء انتصار أكتوبر ليفتح للمصريين أبوابا جديدة للأمل، فأعاد لهم الإحساس بالكرامة، وأعاد للعسكرية المصرية شموخها القديم، ثم أعاد لنا أرض سيناء التى لوثها الاحتلال الصهيونى ست سنوات كاملة.. لم تكتمل فرحة المصريين بنصر أكتوبر، حيث أطل شبح غامض بدأ يتسرب فى كواليس السياسة المصرية، وانتهى باتفاق مشبوه للسلام مع إسرائيل فى كامب ديفيد، وهو الذى أخرج مصر من كل الحسابات الإقليمية والدولية.. كان من الممكن أن يكون نصر أكتوبر بداية صفحة جديدة لوطن جديد، وشعب جديد. وكان من الممكن أن يكون اتفاق السلام بداية مرحلة جديدة نعيد فيها بناء الوطن واستعادة قدراته.. ولكن كما سقط حلم الديمقراطية.. وكما تلاشت مكاسب الفقراء، دخل نصر أكتوبر ذاكرة التاريخ، وأصبح حدثا عاديا ليس أكثر من سطور قليلة فى كتب التلاميذ، وليس أكثر من الضربة الجوية التى أصبحت هى القرار والنصر والذاكرة.. ودخل السلام بين مصر وإسرائيل فى سرداب طويل ليصبح صفقات تجارية فى الغاز والكويز، وتحولت شواطىء سيناء العريقة إلى منتجعات لعرايا إسرائيل ولصوص ومواكب الخصخصة وبيع مصير الأوطان..
كان من الممكن أن يكون السلام عصر رخاء وازدهار لمصر الشعب والوطن، وأن يفتح أبواب الاستقرار والبناء والتقدم، ولكن ثمار السلام تسللت إلى عدد من الأشخاص من الأقرباء والأحباء وأصحاب الحظوة، وزادت نسبة الفقراء فى مصر مع السلام لتصبح 40% تحت خط الفقر..
وفى ظل سلام كاذب مزعوم فسدت منظومة التعليم والإعلام والصحة والثقافة، وجلست على أنفاس الشعب عصابة من الجهلاء والأفاقين الذين تحولت مصر بين أيديهم إلى إقطاعية خاصة يديرها فرعون لحسابه وحساب أبنائه والمحيطين به..
وعلى امتداد ثلاثين عاما لم يحارب فيها المصريون، بل عاشوا أسطورة سلام كاذب، نهبت مجموعة من الأشخاص كل ثروات الشعب المصرى أرضا وتاريخا وبشرا وإنتاجا..
فى ثلاثين عاما من السلام كان يمكن أن تصبح مصر قوة إقليمية عظمى فى الإنتاج والتصدير والرخاء ومستوى المعيشة.. وكان من الممكن أن تصبح البلد السياحى الأول فى العالم كله.. وكان من الممكن أن توفر احتياجات شعبها من الطعام الجيد والسكن المناسب والعلاج والتعليم والثقافة.. كان من الممكن فى ثلاثين عاما من السلام أن تصبح مصر قوة اقتصادية خطيرة على مستوى العالم أمام قدراتها البشرية والإنسانية الرفيعة.. كان من الممكن أن تصبح قناة السويس وبورسعيد من أكبر المناطق الحرة فى العالم، وأن تغزو الصادرات المصرية كل أسواق الدنيا، وأن ينافس الجنيه المصرى عملات الدول الكبرى، ولكن ماذا فعلت سنوات السلام بالمصريين فى ظل نظام حكم فاسد وعصابة نهبت ثروات هذا الوطن؟.. لقد زادت نسبة الفقر.. وزاد عدد العشوائيات.. وأصبحنا نستورد معظم احتياجاتنا من الطعام.. لقد فسدت الزراعة والصناعة، وارتفع حجم الدين العام ليتجاوز تريليونـًا و200 مليار جنيه، لا أحد يعلم أين ضاعت.. فى سنوات السلام العجاف خسر العقل المصرى أهم قدراته، وخسرت الثقافة المصرية أهم مقوماتها، وخسر الإنسان المصرى منظومة رائعة فى السلوك والأخلاق، وزادت نسبة البطالة، وارتفعت نسبة الأمية، وأصبح المصريون يحملون أعلى نسب فى أمراض الفشل الكلوى وفيروس سى وأمراضى الكبد..
ولحقت السنوات ببعضها، والفرص تضيع فرصة بعد أخرى.. فى برنامج الخصخصة تم بيع أصول الدولة المصرية التى صنعتها على عينها منذ عهد محمد على.. فقد تم توزيع الأراضى وبيعت المصانع بأبخس الأثمان وهى التى دفع فيها الشعب المصرى عمره وحياته وماله..
خرجت علينا فى هذه السنوات عصابة استطاعت أن تنهب موارد الدولة المصرية وتتركها خرائب متنقلة، بينما هربت الأموال إلى الخارج مع نفوس ضعيفة فيها من الدناءة والجشع ما يفسد العالم كله..
وضاعت مشروعات مصر الاقتصادية التى بناها الشعب بدمه أمام عدد من المرابين والأفاقين واللصوص..
ارتبط السلام بالخصخصة والانفتاح ونهب مصر.. وارتبط ذلك كله بإهدار مقومات الدولة المصرية.. وتسربت الفرص الضائعة فى حياة المصريين ما بين حلم ضائع فى الديمقراطية، وحلم مسروق فى الرخاء، وحلم مهزوم فى سلام كاذب ومؤامرة لابتلاع ثروة وطن من بعض اللصوص فى برنامج مريب للخصخصة.. وأمام هذا كله كان هذا الاختراق الذى استباح كل شىء فى أسرار هذا الوطن وخزائنه التاريخية والحضارية ما بين علاقات دولية وإقليمية مريبة كانت الأقرب لأساليب التآمر والأدوار المشبوهة..
هذا المسلسل الطويل من الفرص الضائعة سيبقى فى وجدان كل مصرى صفحة سوداء ومواقف تثير الأسى والشجون أن يكون قدرنا أن تسقط من بين أيدينا كل هذه الفرص، وكانت فرصة واحدة منها مثل نصر أكتوبر أو سنوات السلام كافية لصياغة وطن ومجتمع جديد..
وإذا كان هذا ما حدث مع ثورة يوليو، فإن الشىء المؤسف أن ثورة 25 يناير تشهد الآن محاولات إجهاض وتشويه واغتيال.. إن ما حدث فى الأسابيع الماضية من مؤامرات يمكن أن يطيح بكل أحلام هذه الثورة لنجد أنفسنا أمام صفحة من صفحات الانكسار تضاف إلى كل فرصنا الضائعة.. آخر محاولات تشويه ثورة يناير هو تشويه شبابها، وتلك الاتهامات التى توجه إليهم.. كيف يسعى البعض إلى زرع هذه الفتنة بين شباب هذا الوطن وقواته المسلحة؟.. إن هذا الجيل من الشباب من أروع وأعظم الأجيال التى أنجبتها أرض مصر.. هذا الجيل الذى استطاع فى لحظة حاسمة أن يكسر التابوت، ويحطم أسطورة القهر، وينهى سطوة البطش والاستبداد.. هذا الشباب الذى سالت دماؤه الطاهرة وتعانقت مع دماء شهداء مصر فى 56 و67 و73 أنه نبت طاهر خرج من أرض طاهرة.. كيف نتهم هذا الشباب بالعمالة، ونفتح ملفات التخوين وهى لعبة حقيرة كان يمارسها النظام المخلوع ضد من يعارضه. إن دماء الشهداء لم تجف بعد، وكل الأحلام التى رسمتها ثورة يناير مازالت سطورا من دماء كتبها شباب أعاد لهذه الأرض خصوبتها..
إن إهمال مطالب الثورة.. وإهمال الشهداء.. والتشكيك فى الشباب.. وتأجيل المحاكمات.. والتحايل على الإجراءات القانونية فى المحاكم.. وإثارة موجات الغضب عند المواطنين ضد شباب الثورة، وتحميل هؤلاء الشباب مسئولية غياب الأمن، وارتفاع الأسعار، وتدهور الموقف الاقتصادى.. إن اعتصامات ميدان التحرير ليست السبب فى ارتفاع ديون مصر إلى تريليون و200 مليار جنيه.. والشباب لا يتحملون مسلسلات تعذيب المصريين فى سجون النظام البائد.. والثورة لا تتحمل خطايا غياب العدالة فى القضاء، وغياب العدل فى توزيع موارد الوطن.. يجب أن يقف المصريون جميعا وراء ثورتهم.. لأنها آخر فرصة لنا لأن نعيش حياة كريمة فى وطن آمن يعرف شيئا يسمى الديمقراطية وحقوق الإنسان..
لا ينبغى أن نترك مسلسل الفرص الضائعة يفسد علينا فرحتنا الأخيرة مع ثورة تحاصرها مواكب الفساد والنهب حتى تشوهها تاريخا ورموزا ومستقبلا.. إنها الفرصة الأخيرة وليتها لا تضيع..