فانلات وشورتات .. ومناقصات ومزايدات
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 31 يوليه 2012 - 10:10 ص
بتوقيت القاهرة
بينما كان مئات الملايين يتابعون حفل افتتاح الدورة الأوليمبية فى لندن، ويستمتعون بمهرجان مذهل من الرقص والموسيقى والألوان جمع فى أقل من ساعتين كل عناصر الحضارة البريطانية وتنوعها، كان الوفد المصرى مشغولا بما سوف يرتديه فى الأيام القادمة (شورتات، فانلات، شرابات، أحذية) بعد انفجار فضيحة «الشنطة الأوليمبية». وأتصور أن القراء يعلمون الموضوع بالتفصيل، حيث تعاقدت اللجنة الأوليمبية المصرية على شراء «الشنطة» التى يحصل عليها كل رياضى مصرى وفيها ملابسه وعليها علم بلده. ولكن قبل بدء الدورة الأوليمبية ببضعة أيام تبين أن الشنطة ومحتوياتها «مضروبة»، أى عليها اسم وعلامة كبرى شركات الملابس الرياضية العالمية بينما هى فى الواقع مصنوعة فى ورشة لا تملك حق استخدام العلامة التجارية، وبمواصفات مخالفة، ويعتبر مجرد ارتدائها علنا جريمة يعاقب عليها القانون.
السفارة المصرية تدخلت فى الموضوع، وتم «تحريز» الشنطة ومحتوياتها، وتحويلها للنيابة العامة، وبدأت جهات التحقيق وأجهزة الرقابة فى دراسة القضية، لأن الأمر فعلا لا يتعلق بفانلة وشورت، بل بسمعة البلد. وبناء عليه فعلينا أن ننتظر نتائج التحقيق الرسمى وما سيسفر عنه من توضيح لما نحن إزاءه، هل كان فسادا؟ أم اهمالا جسيما؟ أم جهلا شديدا؟
مع ذلك فقد استوقفنى أن المسئول عن شراء «الشنطة الأوليمبية» أكد فى تصريحاته لوسائل الإعلام أن شراء هذه الشنطة لم يشوبه فساد ولا تربح، وأن لا أحد قد حقق أى مكسب شخصى من وراء هذا الموضوع، وإنما الدافع كان الالتزام بقانون المناقصات والمزايدات الذى يفرض على الجهات الحكومية أن تقوم بالشراء بناء على أقل العروض سعرا، وأنه نظرا لأن الشنطة «المضروبة» كانت أرخص بكثير من العروض المقدمة للشنطة «الأصلية»، فقد انتهت اللجنة إلى اختيارها. وإذا كان هذا صحيحا، فإننا نكون أمام حالة تبعث على الضحك والبكاء فى ذات الوقت، وتعبر عن اشكالية تعامل المجتمع مع موضوع الفساد، والصعوبة التى يجدها موظفو الحكومة فى اتخاذ قرارات بسيطة بسبب غياب معايير سليمة للنزاهة ولحماية المال العام.
قانون المناقصات والمزايدات ــ بالمناسبة ــ لا يلزم بالشراء بموجب أقل الأسعار فقط، بل إن النص فيه واضح، بأن يتم الشراء بناء على أقل سعر وأفضل الشروط والمواصفات، وبالتالى فشراء شنطة أوليمبية ذات محتويات مزيفة يخالف القانون لأنه لا يتفق وشروط الجودة، كما أنه ينطوى على مخالفة لقانون حماية الملكية الفكرية، وهذه جريمة أخرى. هذا أمر لا شك فيه، لأن مبدأ التعاقد على أقل المنتجات سعرا يقصد به اختيار السعر الأقل من بين منتجات كلها متساوية فى الجودة والمواصفات. والأكيد أن المسئولين عن شراء الشنطة الأوليمبية يعلمون هذا جيدا. ولكن هنا نأتى إلى عنصر الخبرة والحنكة المتراكمة عبر السنوات. فالموظف المصرى قد تمرس على الحيطة والحذر، وعلى اتباع الأحوط، وعلى التمسك بحرفية القانون ولو كانت تؤدى إلى نتائج غير منطقية، لأن مناخ الرعب والشلل الحكومى والشكاوى وتربص الجهات الرقابية، هذا المناخ الذى تعيش فيه البيروقراطية المصرية منذ آلاف السنين يجعل الموظف الحويط يضرب عرض الحائط بروح قانون المناقصات، وبالملكية الفكرية، ويفضل شراء ملابس مزيفة على تحمل مسئولية أن يقال له يوما ما إنه قد أهدر المال العام فى شراء شنطة أصلية بينما الملابس المضروبة تحقق الغرض.
المسألة ليست بسيطة، بل تعبر عن ثقافة معوجة فى موضوع مكافحة الفساد، حيث يكفى تسديد الخانات، وعقد اللجان، واتباع النصوص بحرفية ولو جاءت النتائج على عكس ما يسعى القانون لحمايته. والأهم من ذلك أن هذا البناء المعقد من القوانين، واللجان، والمراجعة، والتفتيش، كل هذا لا يوقف فسادا، ولا يمنع سرقة، ولا يحقق حماية المال العام، بل يجعل الفساد منظما، وقانونيا، ومستندا إلى أسس سليمة وملفات منضبطة، بدليل الفساد المستشرى فى طول البلاد وعرضها. أما الموظف الذى يجازف ويسعى لحماية المال العام بالفعل عن طريق ممارسة سلطته التقديرية، فيجد نفسه متهما ومحل تحقيق ومحاكمة وقد يضيع مستقبله ومستقبل أولاده لأنه فكر فى الاجتهاد من أجل تحقيق مصلحة للبلد واتخاذ قرار بقدر من المرونة والتصرف.
مصر بحاجة لمراجعة شاملة ليس لنصوص قانون أو أكثر، وليس للوائح ومعايير بالية فحسب، بل إن هناك ضرورة ملحة لإعادة تقييم منظومة الوقاية من الفساد بأكملها، ليس من أجل تضييق الخناق أكثر على الموظف الحكومى، ولا لتصعيد جو الرعب الذى يعيشه، وإنما لإحداث نقلة نوعية من فكرة الرقابة بحرفية النصوص إلى الرقابة الموضوعية التى تأخذ فى الاعتبار ضرورة أن يحتفظ الموظف الحكومى بقدر من السلطة التقديرية، وأن يسمح له بمساحة من الخطأ، وأن يكون تقييم عمله بالنتائج لا بالحرص والحيطة، فهكذا تكون حماية المال العام، وليس باعتبار كل موظف متهما ومدانا ومنحرفا إلى أن تثبت براءته.
ويتوالى مسلسل الفضائح: وزير السياحة يحاول انقاذ الموقف عن طريق شراء ملابس أصلية من موازنة التنشيط السياحى (ومعه حق) فيقال له إن هذا مخالف للقانون. والمسئول عن البعثة الأوليمبية يعلن أنه لن يأخذ مسئولية شراء الملابس مرة أخرى لأن فى هذا إهدارا للمال العام. وشركة الملابس العالمية تنقذ الموقف بإعلان أنها سوف تتبرع للفريق المصرى بالملابس. وينتهى الأمر بأن يحصل اللاعبون المصريون على ملابسهم هبة وتفضلا من الشركة الأجنبية، بينما أفقر بلاد العالم احترمت نفسها واشترت الملابس الأصلية من البداية ولم تضع لاعبيها فى موضع المتسول ولا البلد فى هذا الموقف المهين.
تمنياتى للفريق المصرى بالتوفيق وبأن يتجاوز أعضاؤه محنة وفضيحة الشنطة الأوليمبية، وأملى أن نستفيد من هذه الفضيحة فى إعادة تقييم قضية المال العام وحمايته، منعا لمزيد من الفضائح وحرصا على سمعة البلد وعلى موارده.