لكل منا حديقة على بابا
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 31 أغسطس 2022 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
هناك مغارة عميقة داخل كل شخص، فى جراتها قصص بدل الجواهر، القصص جواهر أصلا. ألوان وأشكال وأحجام تتلألأ حتى فى الظلام. هناك على الأقل جرة أو اثنتان عن سنوات الطفولة، تتداخل فيها صوت الجدة وتهجئة الأحرف الأولى، ثم وجه أول معلمة فى روضة الأطفال، تلك التى تبقى شابة حتى حين نقابلها فى يوم التخرج بعد عشرين سنة. هناك جرة فيها أسرار المراهقة ورسائل ما قبل عالم التواصل الرقمى. ورقة انتزعتها من دفتر الإملاء كتبت عليها جملا زينتها بقلب وسهم.
• • •
أمشى فى المغارة قليلا حتى أصل إلى جرة العائلة من طرف أمى: لقاء أول يوم فى عيد الفطر وبيت كبير بابه لا يغلق طوال النهار. أمى ابنة وحيدة بين إخوتها الثلاثة وفى الجرة صورهم على مدى السنوات مع عائلاتهم التى كبرت. أسحب أيضا يوم العيد فى عائلة أبى فتضىء ضحكات الأطفال المغارة وكأن فى الضحكات البعيدة ألعابا نارية أراقبها وأنا طفلة عمرها عشر سنوات.
• • •
لكل منا مغارة نحفظ فى جرارها أسرارنا. مغارة على بابا الخاصة. أو ربما حديقة سرية، كما يسميها الفرنسيون. الحديقة السرية فى اللغة الفرنسية هى ذلك المكان الدفين فى الذاكرة وفى القلب حيث نخبئ الحكايات. نلفها بورق الحرير لنحميها من أثر السنين. كأن أسحب ضحكة جدتى من أبى وهى فى قمة تألقها وجمالها لم تتغير. أو أرى أثر أول سيجارة دخنتها فى الخفاء ولم أستسغ طعمها. فى الحديقة السرية قصص حب ولقاءات مسروقة بين غيمتين فى شتاء مدينة باردة قبل المطر.
• • •
هناك جرة الخوف، وهى فى أبعد ركن من الذاكرة. هناك دفنت أفكارا عن الموت والفقدان. فى جرة الخوف أرى صورة مأتمى، أتخيل مكانا يقدم فيه أصدقائى العزاء لزوجى. أرى ابنى الأكبر وقد أصبح رجلا يقف فى مدخل المكان. لم تتغير نظرته نصف الساخرة التى يلبسها اليوم على وجهه وهو مراهق. ما أجمله! فى جرة الخوف أيضا رحيل لناس أحبهم. فأرانى جالسة على طرف السرير أتساءل كيف يمكن أن يمضى يوم بأكمله دون أن أسمع صوت أمى مثلا.
• • •
أبتعد بسرعة عن جرة الخوف وأنظر فى الجرة التى بقربها، هى جرة الشك. أشك بقدرتى على أن أكون أما تحتوى أولادها. أشك بقدرتى على أن أتجاوز محنة صحية. أشك بقدرتى على الوصول إلى مرتبة أعلى فى العمل. جرة الشك مزعجة كمسلة أحملها تحت إبطى فتحفر ندبة صغيرة فى جلدى كلما تغلبت على عائق وتذكرنى أننى، كغيرى، أتحرك ضمن حديد قد أدفع بها قليلا وأكسب بعض المساحة لكنها مساحة نسبية. سبحان من وزع الحظ والسعادة والرضا، قد لا نرى أنه أعطى بعضا منها للجميع، حتى لو بنسب متفاوتة، ووضع أيضا عقبات فى طريق الجميع، حتى لو تفاوتت مشقتها.
• • •
فى الحديقة السرية طريق ضيق أسلكه حين يحل الظلام وتتعذر على الرؤية. هل لديكم أيضا مخبأ سرى تدخلونه وتتكورون فيه على أنفسكم وقت الشدة؟ هو طريق ضيق فى آخره فسحة أجلس فيها على الأرض وأضع يدى على ركبتى بعد أن أتربع فأشبه ما يسمى بوضعية التأمل. لم أتمكن قط من إفراغ عقلى من السباق الدائر فيه رغم محاولات عديدة لتطبيق بعض إرشادات أساتذة التأمل. كأن أتخيل البحر مثلا وأسمع صوت الموج فتهدأ روحى. أعترف أننى لا أملك هذه السيطرة. أجلس على الأرض فى محاولة أن أطبطب على نفسى فأرى وجه ابنتى فى سنواتها الأولى يشرق وتغطى ضحكتها عالمى.
• • •
يقال إننا حين نستجمع حكاياتنا السعيدة فى لحظة داكنة فإننا نبدد الظلام بلمسة الذاكرة. لا أعرف مدى دقة أو سذاجة هذه النصيحة التى أراها فى كثير من الأحيان بلهاء ولا تنطبق على فترات عصيبة تحتاج إلى معجزة حتى نمر بها. إنما فى الحقيقة فمنذ أن اكتشفت أننى بنيت مغارة على بابا أو ربما حديقة على بابا فى عقلى، صرت قادرة على تلمس طريقى فى الظلام على الأقل حتى أصل إلى جرة الطمأنينة. أدخل يدى فيها لأغرف لنفسى ملء فنجان من حديث سلس مع صديقة على شرفة بيتها أو بيتى فى مدينة أحبها. لن يحل الفنجان مشاكلى ولن يطيل من عمرى إنما سوف يطيل من دقائق مطمئنة أعيشها معها ريثما تهدأ روحى وأعود قادرة على التفكير فى حلول.
• • •
المغارة هى حديقة سرية أضيف إليها كل فترة جرة جديدة جواهرها مشرقة أو قاتمة. كلها جواهر فحتى القاتمة منها علمتنى أن أتعامل مع الصعاب. هنا فى حديقتى السرية أسند ظهرى على شجرة اللوز وأرمى بنظرى على شجرة الرمان أمامى. «تحت الرمانة، حبى حكانى» أدندن مع فيروز. فى المغارة السرية أدفن أسرارا وأفتح درجا للحكايات القديمة فيها قصاصات من الورق كتبت عليها باللون الأخضر. وأنتم؟ ما شكل مغارتكم السرية؟ أهى أيضا حديقة؟ هل لكم فيها طرق ضيقة على طرفيها جرات تملؤونها بالحكايات؟