«تاريخ ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية» «4-4 »
عمرو الشلقاني
آخر تحديث:
الأربعاء 31 أكتوبر 2012 - 8:05 ص
بتوقيت القاهرة
ظهرت نتيجة امتحانات الثانوية العامة فى صيف سنة 1904، فتقدم 78% من الحاصلين على هذه الشهادة للقبول بمدرسة الحقوق الخديوية، وهى نواة ذات المعهد العلمى الذى صرنا نطلق عليه اليوم اسم «كلية الحقوق ــ جامعة القاهرة».
نعم، كانت دراسة القانون هى الرغبة العارمة لدى 78% من طلبة الثانوية العامة قرابة قرن مضى، مما اضطر إدارة مدرسة الحقوق وقتئذ ولأول مرة إلى رفض عدد لا بأس به من الطلبات المقدمة للالتحاق بها...
لا يخفى على القارئ هول الفارق بين دراسة الحقوق حينئذ، وما آلت إليه اليوم، من تدنٍّ مفجع فى شروط التحاق الطلاب بكلياتها، وهو تدنٍ كان مصحوبا خلال العقود السابقة بتوسع غير معقول ولا مسئول فى عدد الطلاب المقبولين لدراسة القانون، حتى نجد اليوم عدد المقيدين فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة وقد وصل مشارف الأربعين ألف طالب.
كانت مدرسة الحقوق إذن من كليات القمة، أو قل كانت هى مدرسة تكوين النخبة المصرية الحديثة فى الفترة ما بين 1886 و1952، فارتفع من عدد 14 طالبا فقط تخرجوا عقب تأسيس «مدرسة الحقوق الخديوية» سنة 1886 إلى 89 خريجا سنة 1910.
وكان أحد الأسباب الرئيسية فى ذلك يرجع إلى تعيين طلاب المدرسة فور تخرجهم فى وظائف الحكومة المصرية المختلفة، من نيابة وقضاء، إلى موظفين ومستخدمين وكتبة فى المصالح والوزارات، وذلك لما تمتع به العمل فى الحكومة حينئذ من كرامة بالمنزل واعتدال فى الراتب، حتى وصل الأمر بالحكومة إلى تعيين قرابة 50% من خريجى دفعة الحقوق سنة 1908، فبدأت فى تخفيض عدد تعييناتها من الحقوق إلى أن وصل إلى 10% فقط من خريجى دفعة 1934.
إلا أن هذه السياسة أيضا باءت بالفشل، فقد كانت سمعة المحاماة فى رقى وارتفاع، وكانت معها الأعداد المتواترة من وكلاء النيابة والقضاة يستقيلون من وظائفهم الحكومية بغرض الممارسة الحرة للمحاماة، فيفتحون مكاتبهم الخاصة، ويحصلون فى ممارسة المهنة من الأتعاب أضعاف رواتبهم الحكومية وأكثر، يدفعها لهم طبقة جديدة من الموكلين الأثرياء.
فمن أصحاب الأطيان إلى رجال البرجوازية الرأسمالية الحديثة، كان جميعهم بحاجة لنصح محام أو إدارة وكيل لمصالحهم الاقتصادية المختلفة، وظل الحال كذلك إلى أن اختفت تلك الطبقة من الموكلين فى ظل سياسات ناصر الاقتصادية، من تأميم ونزع ملكية وخلافه.
أضف إلى ذلك ما صاحب سنوات الضباط الأحرار الأولى فى الحكم من صدام مفتوح مع نخبة البلاد الحاكمة قبل انقلاب الجيش سنة 1952، والتى كان لخريجى الحقوق الباع الأعظم فى قيادتها، فتضافرت كل هذه العوامل ما بين سياسة متعمدة فى الحط من شأن التعليم القانونى وشروط الالتحاق بكلياته، مع حرمان المحامين من موكلين أثرياء كأهم مصادر دخلهم فى العمل الحر، ومن ثم أفول نجم دراسة القانون والتفات طلبة الثانوية العامة فى طموحهم المهنى إلى مجالات أخرى بعيدة عن المحاماة، كالهندسة مثلا، والتى أخذت تمد النظام الناصرى بالكثير من نخبته الحاكمة، بدلا من الاعتماد التقليدى على خريجى الحقوق فى هذا الشأن.
●●●
يقال إن الأستاذ محمد حسنين هيكل هو الذى أوعز إلى السادات تبنى شعار «سيادة القانون» كموقف هجومى فى تصفية معركة «مراكز القوى» صيف سنة 1971، بعد أقل من سنة على ذكرى وفاة ناصر.
وإلى أن يُطلق هيكل الصراح عما لديه من أوراق متعلقة بهذه الفترة، يتبقى ما نعلمه جميعا، من تعمد السادات خلال أزمة «مراكز القوى» على الظهور فى البطولة المطلقة لدور «الرئيس الشرعى» للبلاد، المنتخب وفق دستور 1964، والمحافظ على أحكامه من عصف قوى المعارضة له، والتى تم تصويرها فى المقابل على أنها قوى انقلابية غير مشروعة، بداية من إعفاء على صبرى كنائب لرئيس الجمهورية، ثم قبول استقالة شعراوى جمعة وآخرين فى 13 مايو 1971.
وقد تلى ذلك إعلان «ثورة التصحيح»، وإقرار وقف الرقابة على التليفونات، وإلغاء كل أنواع الرقابة البوليسية إلا ما تتطلبه السلطة القضائية لصالح «أمن البلاد الخارجى»، ثم كان تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور محمود فوزى فى 15 مايو 1971.
وقد عمد نظام يوليو فى نصفه الثانى هذا، تحت السادات ثم مبارك، إلى تمييز نفسه عن المرحلة الناصرية برفع وإعلاء شعارات من قبيل «دولة المؤسسات» واحترام «سيادة القانون»، فكان اعتذار السادات عن «مذبحة القضاء»، فى خطابه أمام نقابة المحامين، ثم كان قراره بإعادة تعيين بعض أعضاء الهيئات القضائية الذين تم عزلهم سنه 1969، وإن أغفل فى ذلك عودة 46 من رجالها إلى مناصبهم، حتى كان حكم محكمة النقض التاريخى سنة 1972 باعتبار قرارات ناصر وكأنها لم تكن.
وقد صاحب كل ذلك ظهور السادات فى مشاهد شديدة الدرامية، غرضها التوكيد على احترام نظام يوليو لحقوق المواطنين وحرياتهم الشخصية فى ظل ثورة التصحيح، مثل إحراق الرجل للملفات والتسجيلات الخاصة بالمواطنين فى فناء وزارة الداخلية سنة 1971، أو هدمه الرمزى بالمعول لزنزانة بليمان طرة فى ذكرى ثورة التصحيح 15 مايو 1975.
والأهم فى نظرنا كان إعلاء نظام يوليو فى مرحلته الثانية من قيم احترام الملكية الخاصة، ونهجه رسميا إلى تبنى اقتصاد السوق من خلال سياسات «الباب المفتوح» فى أول عهده، والتى أتت على البقية الباقية من المنطق الاشتراكى لنظام يوليو فى مرحلته الأولى، ثم منطق القومية العربية من ورائه بعد توقيع السادات على اتفاقية السلام مع إسرائيل.
●●●
أصيبت مهنة المحاماة بالضرر المادى المباشر من جراء سنوات ناصر الاشتراكية، وتجربتها فى سياسات الإصلاح الزراعى، ثم التمصير، فالتأميم، فالوضع تحت الحراسات، فادعاء «الاكتفاء الذاتى» بإنتاج الدولة لكل شىء «من الإبرة إلى الصاروخ»... إلخ.
أدى كل ذلك إلى حرمان نخبة المحامين فى بلدنا من أثرياء الموكلين أصحاب المصالح المالية الضخمة فى الأطيان والتجارة والصناعة قبل انقلاب الجيش سنة 1952، والذين حل محلهم فى ذلك محامو هيئات الدولة المختلفة القائمة على اقتصادها الاشتراكى.
فإذا بالدولة مع السادات تنتهج سياسة «الباب المفتوح»، المؤذنة بعودة رأس المال إلى الظهور فى حياتنا الاقتصادية، ففتحت الشركات متعددة الجنسيات مكاتبها فى مصر وأخذت الدولة تُصدر القانون تلو الآخر فى تشجيع رأس المال على الاستثمار فى البلاد، من خلال إنشاء «مناطق حرة»، أو منح عفو ضريبى عن أرباح تلك الشركات.. إلخ.
وقد أبقى مبارك على ذلك التحول الجوهرى فى سياسة الدولة الاقتصادية الذى بدأه السادات، بكل ما استتبعه أيضا من تحول موازٍ فى سياستنا الخارجية، فكانت حرب الخليج سنة 1991، فى ظل دعوة بوش الأب إلى «النظام الدولى الجديد»، ودخول منظمة التحرير الفلسطينية فى اتفاقات أوسلو للسلام، ومن قبلها انضمام مصر إلى جيوش الحلفاء فى طرد الاحتلال العراقى من الكويت.
وقد كوفئ النظام عن اشتراكه فى حرب تحرير الكويت بالحصول على عفو من الديون الدولية مقداره قرابة العشرة بلايين دولار من منتدى دائنى باريس.
وفى المقابل التزمت الحكومة رسميا سنة 1991 بتبنى سياسات «إعادة الهيكلة الاقتصادية» تحت إشراف خطة من صندوق النقد والبنك الدولى، وفى ظل تكامل اقتصادى كان يُرجى شموله للمنطقة الإقليمية بأسرها، بما فى ذلك إسرائيل فى ظل «شرق أوسط جديد».
فكان أول عهدنا مع «الخصخصة» وخلافها فى ظل حكومة الجنزورى الأولى، ومن ورائها وزارة عاطف عبيد فى نهاية التسعينيات، وكان معها بالطبع ازدهار غير مسبوق فى عمل نخبتنا القانونية المساعد لذلك التحول فى سياستنا الاقتصادية.
لم يقتصر هذا الازدهار على ظهور وتنوع مكاتب المحاماة الدولية بالقاهرة، ولكن صاحبه أيضا ظهور وازدهار مناصب إدارية جديدة فى جهاز الدولة، يضطلع منه بعض أفراد نخبتنا القانونية على عملية التحويل لاقتصاد السوق، من قبيل هيئة سوق المال، والتمويل العقارى، ووزارة الاستثمار، وجهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار.. إلخ.
كانت تداعيات حرب الخليج الأولى مسئولة لحد بعيد إذن عن ظهور مصطلح «سيادة القانون» كمفهوم اقتصادى فى الأساس خلال تسعينيات القرن الماضى، يتصل بحماية الملكية الخاصة وتحرير علاقات السوق من تدخل الدولة فيها.
ثم كان 11 سبتمبر 2001، وما لحقه من تداعيات أصابت مصطلح «سيادة القانون» بتوسع أكبر فى المعنى، محليا ودوليا، ليشمل التزام الدولة بمبادئ مثل «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان».
ولنا فى ذلك سندان، أولهما «الأوراق البيضاء» المتتالية عن البنك الدولى منذ 2002، وهى تنبئ بظهور «جيل ثانٍ» من الاصلاحات القانونية الضروية لتحقيق التنمية وقياس نجاحها، وضعت إلى جانب الالتزام بمبادئ الملكية الخاصة ظهور مبادئ أخرى كحماية «حقوق الإنسان» أو الحفاظ على «استقلال القضاء» مثلا، كمعايير لها نفس أهمية المدلولات الحسابية التقليدية مثل مقدار الارتفاع فى نسبة الناتج القومى، أو الثبات فى قيمة احتياطى العملة الصعبة.
وقد صاحب ذلك تحول موازٍ فى سياسة الولايات المتحدة المعلنة تجاه دول الشرق الأوسط، فيما يخص ذات المسائل المتصلة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، خاصة مع إطلاق بوش الابن لوثيقة «إستراتيجية الأمن القومى للولايات المتحدة الأمريكية»، والتى لحق صدورها بأقل من سنة وقوع الغزو الأمريكى للعراق سنة 2003.
وقد ألزمت هذه الوثيقة الخارجية الأمريكية صراحة على «حماية المبادئ الأساسية للكرامة الإنسانية، وهى: سيادة القانون، ووضع القيود لمنع تسلط الدولة وأجهزتها على المواطنين، حرية التعبير، حرية العبادة، المساواة أمام القضاء، احترام المرأة، التسامح الدينى والعرقى، واحترام حقوق الملكية الخاصة»...
●●●
أدى التحول الشكلى فى العلاقة بين القانون والأمن خلال سنوات السادات ومبارك يوليو إلى ظهور طائفتين أخريين من نخبتنا القانونية على ساحة العمل السياسى الوطنى بشكل كثيف، وهم بالأخص طائفة القضاة من جانب، وطائفة محامى الترافع عن الصالح العام فى قضايا الحريات وحقوق الإنسان من جانب آخر.
أما القضاة، فإن كانت آثار مذبحة 1969 قد زالت فى أغلبها بشكل قانونى، إلا أن مطلبهم الأصيل، والذى لم يتغير منذ انعقاد مؤتمر العدالة «الأول» فى ثمانينيات القرن الماضى، وهو «الأخير» فى ذلك حتى يومنا هذا، كان وما زال صدور قانون جديد يضمن للقضاء استقلاله السليم من تدخل السلطة التنفيذية.
وإزاء تعنت النظام فى الاستجابة لهذا المطلب الجوهرى، وجد مجلس إدارة نادى القضاة سنة 2005 نفسه واقفا موقف الند للحكومة، مهددًا بعدم الإشراف على العملية الانتخابية ما لم تقم الدولة بتبنى إصلاحات جوهرية تضمن للقضاء استقلاله وسلامة أحكامه، أو على الأقل طهارة الإنتخابات من التزوير.
وإلى جانب القضاة فى مطلبهم هذا، بدأ الخطاب العام تظهر عليه آثار ظهور الصعود المضطرد لنخبة الناشطين فى الدفاع عن حقوق الإنسان، والتى إن بدأت طور نموها فى ثمانينيات القرن الماضى كتخصص غير مألوف فى المحاماة، إلا أنها ظهرت مع صيف 2005 بحضور وثقل جعلها بالضرورة طرفا لا يستهان به فى تعامل نظام يوليو مع معضلة القلب الأمنى للنظام.
فكان إنشاء المجلس القومى لحقوق الإنسان مظهرا لالتزام النظام سيادة القانون، ووسيلة لاستقطاب أو تحييد أفراد بعينهم من تلك النخبة الحقوقية الجديدة، وذلك بالطبع إلى جانب إنشاء المجلس القومى للمرأة، أو الأمومة والطفولة... إلخ.
وكانت الأرض معدة بذلك فى صيف 2005 لظهور شعار «سيادة القانون» على أوسع مفهوم له، ليصبح المظلة المشتركة لمجموعة كبيرة، متناقضة، بل ومتناحرة سياسيا فى مطالبها.
فصندوق النقد يطالب مصر بـ«سيادة القانون» لغرض التنمية الاقتصادية، والبنك الدولى يطالب به لغرض التنمية البشرية، وإدارة بوش الابن تطالب به ضمانة فى حماية الحقوق والحريات، وجميع القوى السياسية المصرية ترفع ذات الشعار أيضا، الأحزاب الرسمية منها والمحظورة سواء...
وهكذا دخلنا صيف 2005، فلا أصبح نظام يوليو قادرا على التجمل عسكريا، ولا أصبحت أكاذيبه محتملة مدنيا، وحارت بينهما دراسة القانون على نهج مستقيم.
●●●
نعم، كانت كلية الحقوق بجامعة القاهرة تُعرف باسم «كلية الوزراء» قبل انقلاب الجيش سنة 1952، وأما اليوم، فقد أصاب الكلية من الانهيار ما ليس أدل عليه من اسمها الدارج، الذى يتناقله الطلبة دون حرج فى جامعاتنا المعاصرة، مشيرين لزملائهم من دارسى القانون على أنهم طلاب فى «جراج الجامعة».
صارت كلية الحقوق مأوى كل من لم يُقبل فى كليات القمة، وأصر رغم ذلك على التخرج بأى شهادة جامعية ما، ليتم بهذا «ركنه» كالسيارة العاطلة فى «مدرجات» دراسة الحقوق، حتى يأتى موسم الامتحانات مع نهاية كل فصل دراسى فيدخل الطلبة ــ وتدخل معهم الكلية من هيئة تدريس وموظفين وغيرهم من العاملين بالجامعة ــ فى حالة طوارئ أكاديمية، مسماة مجازًا بامتحانات «الترم»، حالة عبثية المشهد وحزينة المدلول على ما وصلت إليه دراسة القانون من شأن فى مصر اليوم.
أطنان من أوراق الأسئلة والإجابة تدور بين أساتذة مواد القانون و«كنترول» السنة الدراسية، توضع فى مظاريف بنية، من نوعية «ورق اللحمة»، على متن عربات الميكروباص وهى ملفوفة بدوبارة بعد دوبارة لمنع الأوراق من الانسدال على الفراشين القائمين على حمل ونقل كل ذلك، بينما الشباب من أعضاء هيئة التدريس فى حيرة من أمرهم، يشرفون على الامتحانات بغرض منع الغش فيها، ولكنهم محاطون فى ذلك بطلبة هم فى أغلبهم غير راغبين أو قادرين على إجابة أسئلة الامتحان أصلا.
أما كبار أساتذة القانون، فلا يملكون من أمر إدارتها شيئا،، فلا هم قادرون على تحديد عدد الطلبة فيها، ولا مجموع الثانوية العامة شروط للالتحاق بها، ولا حتى تقييم مصاريف الدراسة فيها وربطها بأجر الأستاذ الجامعى، الذى لا يجد سوى بيع كتابه فى المادة مصدرا للدخل يسمح له بقدر من الحياة الكريمة، إلى أن تسنح له فرصة الإعارة فى إحدى كليات الحقوق بالخليج، فينأى بنفسه وأسرته عن كل ذلك...
ومن الحق هنا الاعتراف بأن كلية الوزراء هذه، ومن ورائها الكليات الشقيقة فى جامعات عين شمس والإسكندرية وأسيوط، تمكنت خلال العقود اللاحقة مباشرة لانقلاب الجيش على الاستمرار فى تخريج نخبة مصرية حصلت من جودة التعليم ما مكنها من تبوء أكبر المناصب القيادية فى ساحة العمل القانونى الدولى.
فكما تخرج منهم قبل انقلاب الجيش سنة 1952 من تولى منصب السكرتير العام للأمم المتحدة، د بطرس غالى، والقاضى بمحكمة العدل الدولية، د عبد الحميد باشا بدوى، فقد خرّجت كليات الحقوق لدينا كذلك بعد الانقلاب وإلى ستينيات القرن الماضى من تبوء ذات المنصة بمحكمة العدل الدولية، د نبيل العربى، ومعه فى ذلك على سبيل المثال لا الحصر، القاضى على المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، د فؤاد رياض، والمحكم لدى منظمة التجارة الدولية، د جورج أبى صعب، والمستشار القانونى نائب رئيس البنك الدولى، د إبراهيم شحاتة، ورئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، د محمد البرادعى، ثم حدث ولا حرج عن سيل من أسماء القانونيين ممن تولى منصب الأمانة العامة لجامعة الدول العربية منذ تأسيسها وحتى اليوم، مرورا بآخرهم، السفير عمرو موسى.
كذلك من الحق الاعتراف بأن كليات الحقوق خلال العقود التالية لانقلاب الجيش تمكنت أيضا من الاستمرار فى دورها التقليدى المتعلق بتخريج أفراد من النخبة القانونية الموالين لنظام الحكم فى الشأن الداخلى، ممن درجنا على تسميتهم فى العامية بـ «ترزية القوانين».
فكما تبوأ من خريجى «كلية الوزراء» من عمل لمصلحة السراى أو الإنجليز قبل سنة 1952، من أمثال أحمد نسيم باشا، فقد اضطلع بذات الدور المؤيد للنظام فى عهد مبارك أيضا من خريجى الكلية وأساتذتها الكثير من الأسماء اللامعة التى نذكر منها على سبيل المثال من هم من قبيل الدكاترة رفعت المحجوب، وعاطف صدقى، وفتحى سرور، ومفيد شهاب، ومحمد الرزاز، وآمال عثمان... إلخ.
●●●
كانت آخر محاولات «جراج الجامعة» فى استعادة دور كلية الحقوق التقليدى ككلية للوزراء هو ما عمدت إليه الإدارة فى العقد السابق مباشرة على ثورة 25 يناير من توخى سياسة الدولة الداعمة لاقتصاد السوق بشكل رسمى، ومن ثم الإقدام على محاولة «إصلاح موازٍ» لبعض جوانب التعليم القانونى بالكلية، وذلك عن طريق «خصخصة الحقوق» إن جاز التعبير.
فكما قامت محافظة القاهرة مثلا على إبقاء سيارات الأجرة المعروفة بتاكسيات «الأبيض والأسود» فى شوارع المدينة، بينما ظهرت سيارات الأجرة الصفراء والبيضاء إلى جانبها، تعتمد على «العداد» فى حساب الأجرة وفقا لـ «سعر السوق العادل» لها، كذلك أبقت الكلية من جانب على ما أصبح يطلق عليه اسم «قسم اللغة العربية»، حيث يقبع السواد الأعظم من طلبة الحقوق الدافعين لمصاريف الدراسة «الرمزية» فى مدرجاتها، والتى يفترض أن تتسع للآلاف منهم الملتحقين بكل دفعة.
وبالتوازى مع ذلك قامت الكلية بافتتاح أقسام «خاصة» فى دراسة القانون باللغة الإنجليزية والفرنسية، تصل مصاريفها أضعافا مضاعفة لما يسدد فى القسم العربى، ويحصل طلابها فى المقابل على محاضرات لا يتجاوز عدد الجالسين فى قاعاتها مائة ونيف على أقصى تقدير، ناسفة بذلك التزام الجامعة الرمزى بمجانية التعليم، ومعيدة لإنتاج ذات الفوارق الطبقية القاسمة لمجتمعنا اليوم.
ناهيك فيما سلف عن انتفاء أى تطور حقيقى فى المنهج الدراسى لأى من أقسام اللغات الخاصة هذه، أو عما آلت إليه مكتبة الكلية من ضعف شديد فى مجموعة المواد العلمية المحفوظة بها، ومن ثم ما أصاب الدراسات العليا فى الكلية أيضًا من جمود فى الفكر، وتقليد فى البحث والكتابة والنشر.
كتاب تحت الطبع تنشره دار الشروق قريبا