جون كيرى يدعم فرص حلّ الدولتين
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 31 ديسمبر 2016 - 10:35 م
بتوقيت القاهرة
لم يصبح خبرا أن وزير الخارجية الأمريكية جون كيرى قد ألقى خطابا يوم الأربعاء الماضى 28 ديسمبر رسم فيه الخطوط العريضة لما يراه حلا للنزاع بين الشعب الفلسطينى وإسرائيل بل وتسوية للصراع العربى الإسرائيلى برمته. من المؤكد أنهم نادرون هؤلاء الأشخاص المهتمون بالسياسة بأى من جوانبها فى منطقتنا الذين لا يعرفون بهذا الخطاب. لذلك فإنه يكفى فى هذا المقال الإشارة إلى المبادئ الستة التى حددها كيرى لهذا الحلّ، دون التفصيل أو الخوض فيها.
أول هذه المبادئ هو انسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها سنة 19677، وفقا لقرار مجلس الأمن الدولى رقم 242، وتبادل الأراضى بالاتفاق بين الطرفين بما يعكس الواقع على الأرض. المبدأ الثانى هو إنشاء دولة فلسطينية متصلة الإقليم إلى جانب إسرائيل، أى أن تقوم دولتان على أرض فلسطين التاريخية. المبدأ الثالث هو حلّ عادل وواقعى لمسألة اللاجئين الفلسطينيين، بما فى ذلك تعويضهم، ولكن بدون الإشارة إلى «حق العودة» للاجئين، وذريتهم، الذين اضطروا إلى مغادرة ديارهم وأراضيهم فى سنة 1948. المبدأ الرابع هو الاعتراف بمدينة القدس عاصمة لكل من الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية مع الإبقاء عليها موحدة. المبدأ الخامس هو اتفاق لتلبية احتياج إسرائيل إلى الأمن مع إنهاء الاحتلال وتحقيق الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح للأمن الضرورى للشعب الفلسطينى. أما المبدأ السادس فهو إنهاء الصراع العربى الإسرائيلى بناء على تحقق المبادئ الخمسة الأولى وإنشاء ترتيبات للأمن الإقليمى والتعاون كما تنص على ذلك مبادرة السلام العربية، وهى المبادرة التى تقدم بها العاهل السعودى السابق الملك عبدالله.
حل الدولتين ليس إلّا مبدأ واحدا من المبادئ الستة ومع ذلك فإن الخطاب أصبح معروفا بأنه خطاب «حل الدولتين»، وذلك لسببين بسيطين الأول هو أن سريان كل المبادئ الأخرى يتوقف على القبول به، والثانى أن كيرى أنفق خطابه كله فى تفسير المنطق وراء حلّ الدولتين وفى بيان أنه يحقق مصلحة إسرائيل نفسها، فضلا عن تحقيق العدالة للشعب الفلسطينى، وقبل هذه وتلك، بالنسبة إليه، يحقق مصالح الولايات المتحدة فى منطقة الشرق الأوسط. ساق جون كيرى قرائن كثيرة على صداقته لإسرائيل وصداقة إدارة الرئيس أوباما لها. ودافع كيرى عن تمرير الولايات المتحدة لقرار مجلس الأمن الصادر يوم 23 ديسمبر الماضى الذى أدان المستوطنات الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وأنكر أن تكون الولايات المتحدة هى التى صاغت مشروع القرار هذا مشيرا إلى أن من صاغه فى الأصل هم «المصريون وهم من أقرب أصدقاء إسرائيل فى المنطقة»، وحرص كيرى على الإشارة إلى أن تمرير الولايات المتحدة للقرار لم يكن خروجا على مواقف الولايات المتحدة فى مجلس الأمن بل تأكيد لها فلقد عارض كل الرؤساء الأمريكيين الديمقراطيين والجمهوريين قبل الرئيس أوباما المستوطنات الإسرائيلية واتخذت فى مجلس الأمن قرارات بهذا الصدد فى ظل إداراتهم، بل إنه اقتبس من خبر نشرته جريدة نيويورك تايمز عن قرار منها اتخذه مجلس الأمن فى يوم 23 ديسمبر نفسه ولكن فى سنة 1987، أى فى ظل رئاسة الرئيس رونالد ريجان، قبل القرار الأخير بتسعة وعشرين عاما كاملة.
***
من منظور عربى، التساؤل يثور عمّا إذا كانت مبادئ كيرى تحقق العدالة فعلا للشعب الفلسطينى أم لا، ولكن تساؤلا آخر، هو موضوع هذا المقال، يتعلق بقيمة المبادئ التى أعلن عنها كيرى وإن كان ينبغى الاعتداد بها أو لا، خاصة بعد أن أعلن الرئيس المنتخب دونالد ترامب ازدراءه للأمم المتحدة ووَعَدَ إسرائيل بأن كل شىء سيتغير بعد توليه الرئاسة فى 20 يناير القادم، بمعنى أن إدارته لن تلقى بالا لا لقرار مجلس الأمن ولا لمبادئ كيرى. بالنسبة للمراقب للسياسة الأمريكية وللسياسة العالمية، الكلام الصادر عن ترامب هو الذى لا يعتد به تماما ولا ينبغى للدول الأخرى، ومنها مصر، أن تحسب حساباتها على أساسه.
***
موقف الولايات المتحدة فى مجلس الأمن ومبادئ كيرى لا تأتى من فراغ. هذا الموقف وهذه المبادئ لها سند فى الجماعة السياسية والأكاديمية الأمريكية. ليس متصورا أن يعلن كيرى مبادئه الستة وأن يهاجم سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية بما فى ذلك رئيسها، بنيامين نتنياهو، ومندوب إسرائيل الدائم فى الأمم المتحدة، إن لم يكن يعلم أن وراءه ووراء الرئيس أوباما ظهرا يسندهما. جون كيرى ليس وزيرا من خلفية أكاديمية أو هو أتى من صفوف كبرى الشركات أو الجيش أو وزارة الخارجية ذاتها، وإنما هو فى المقام الأول رجل سياسة، حساباته سياسية الطابع. لثمانية وعشرين عاما كان كيرى عضوا فى مجلس الشيوخ عن ولاية ماساشوستس، خاض خلالها الانتخابات الرئاسية كمرشح للحزب الديمقراطى سنة 2004. مساندة إسرائيل قوية جدا فى مجلسى الكونجرس الأمريكى، وبين جماعات الضغط، وفى البيئة المحيطة بعملية اتخاذ القرار، وفى دوائر أكاديمية. ولكن الجماعة السياسية والأكاديمية أوسع من ذلك وهى متنوعة.
المرشح الديمقراطى فى الانتخابات الأولية الأخيرة لحزبه، بيرنى ساندرز، كان موقفه واضحا فى إدانة الاحتلال الاسرائيلى للأراضى الفلسطينية والمطالبة بالانسحاب منها. تأييد ساندرز ومواقفه كلها بين الشباب الأمريكى كان واسعا، حتى أن ثمة من يعتبرون أن هزيمة هيلارى كلينتون فى الانتخابات الرئاسية راجعة إلى أن هذا الشباب كان فاترا فى نقل ولائه من ساندرز إليها. فى الجامعات حركة منظمة لأنصار التطرف الإسرائيلى للتصدى لأى إدانة لإسرائيل أو حركة لمقاطعتها. ولكن وجود مثل هذه الحركة فى حدّ ذاته دليل على وجود من يدينون التطرف الإسرائيلى ويدعون إلى مقاطعة إسرائيل فى الجامعات الأمريكية. من العالم الأكاديمى الأمريكى صدر عن اثنين من أهم علماء العلاقات الدواية الأمريكيين هما جون ميرشايمر وستيفن والت كتاب فى سنة 2007 يكشف عن نفوذ جماعات المصالح الإسرائيلية فى السياسة الخارجية الأمريكية. تعرض المؤلفان لهجوم كاسح بعد صدور الكتاب ولكن العاصفة مرّت وهما ما زالا فى موقعيهما المرموقين فى جامعتى شيكاجو وهارفارد. قبلها بسنوات كان المؤرخ نورمان فنكلستين قد أصدر كتابه عن «صناعة المحرقة» معتبرا أن المتطرفين فى تأييدهم لإسرائيل جعلوا من معاناة اليهود صناعة تبرر تطرفهم واعتداءهم على الحقوق الفلسطينية. وأشهر علماء اللغويات فى العالم، الأستاذ فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، نعوم تشومسكى لا يكف عن الحديث والكتابة والنشر ضد الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين. وفى سنة 2006، أصدر الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، الناشط منذ عقود فى المجتمع المدنى العالمى، كتابا لم ينكص عن منحه عنوان «فلسطين.. السلام وليس الفصل العنصرى»، اعتبر فيه ممارسات إسرائيل فى الأراضى المحتلة بمثابة فصل عنصرى. يملك دونالد ترامب الصلاحية الدستورية والقدرة على تجاهل مظاهر إدانة الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين فى الولايات المتحدة نفسها، ولكن هل يمكنه هو، أو هل يمكن للنظام السياسى الأمريكى، الاستمرار فى هذا التجاهل فترة طويلة؟
ثم إن مجمل السياسة الأمريكية، بمعنى التفاعلات بين أطراف العملية السياسية الأمريكية، لا يجرى هو الآخر فى فراغ. أيا كانت قوة الولايات المتحدة فإنها لا تستطيع أن تفرض على العالم أجمع مساراته. ليس بيانٌ أبلغ على ذلك من تحدّى الحكومة الإسرائيلية الحالية نفسها لإدارة الرئيس أوباما. أربعة عشر دولة صوتت بتأييد قرار مجلس الأمن الصادر فى الأسبوع الماضى، بما فى ذلك الدول دائمة العضوية كلها، باستثناء الولايات المتحدة، وكل الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى بما فيها فرنسا والمملكة المتحدة. الاتحاد الأوروبى موقفه المعارض للمستوطنات ليس جديدا وهو فى تجارته مع اسرائيل يميز ما بين منتجاتها، الممنوحة أفضلية تجارية، والسلع المنتجة فى المستوطنات. هل يتراجع الاتحاد الأوروبى عن مواقفه ويصطف خلف الولايات المتحدة كما فعل كثيرا فى الماضى؟ هذا ليس وقت تغيير فى مواقف الاتحاد الأوروبى. الاتحاد يواجه تدفقات للاجئين من الشرق العربى، هربوا من الاضطهاد والعنف فى بلادهم وهو لا يريد مزيدا من عدم الاستقرار فى جواره ينتج عنه استمرار فى التدفقات. والاتحاد الأوروبى يدرك أن العسف والظلم الذى يتعرض له الفلسطينيون أرضية خصبة لنشأة الإرهاب الذى تعانى دوله منه. الاتحاد الأوروبى ليس فى وارد تغيير مواقفه من الاحتلال والاستيطان. إن لم يراع ترامب مصالح الاتحاد الأوروبى فربما كانت النتيجة تباعدا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، يضيف إلى أسباب أخرى للتباعد ليس هذا مجال تناولها، وهى نتيجة ستكون بمثابة زلزال فى السياسة الأمريكية والدولية.
***
كلام ترامب لا يتفق لا مع معطيات السياسة الدولية أو السياسة الأمريكية ذاتها. الوقت الحالى هو الذى ينبغى أن تعلو فيه نبرة المطالبة بإدانة الاستيطان وبإنهاء الاحتلال الإسرائيلى، وليس خفوتها أو تواريها. على وقف الاستيطان وإنهاء الاحتلال يتوقف نجاح حل الدولتين ومعه فرص السلام فى منطقتنا.