نتحدث كثيرا عن الممارسات القمعية للدولة من قتل وتعذيب واعتقال وغيرها، لكن الأمر لا يقتصر على ذلك النوع من القمع العنيف الواضح، بل أن الدولة تضع بصمتها القمعية لتصبغ بها جميع تفاصيل الحياة فيصبح القهر جزءا من كل خطوة نخطوها ومن كل ذرة هواء نتنفسها.
أمر يوميا بجانب جامعة عين شمس، ثانى أكبر جامعات الوطن، وأراقب آلاف الطلبة فى طريقهم إلى كلياتهم فألمس ذلك القهر الرتيب الذى يشكل نسيج الحياة فى تلك المنطقة المهمة من العاصمة. يفصل شارع الخليفة المأمون بين شطرىّ الجامعة حيث يقع الحرم الرئيسى فى جانب والحرم الآخر وبه كلية التجارة فى الجانب المقابل. فى منتصف الطريق حديقة بطول الشارع والحديقة محاطة بسور من الأعمدة الحديدية بحيث لا يمكن العبور بين جانبى الجامعة إلا بقطع مسافة طويلة للدوران حول السور. أراقب المحاولات اليومية للطلبة لعبور الطريق، فبعد الأكروبات المطلوبة لعبور الشارع يبقى الجزء الأصعب وهو عبور الحديقة المسورة. منذ اليوم الأول للدراسة لا يجد الطلبة بدا من خلع بعض الأعمدة للسور الحديدى، والحق أنهم يتمتعون بالكثير من ضبط النفس فلا يخلعون سوى عامودا واحدا أو اثنين فقط من الأعمدة الرأسية بما يسمح بالكاد بمرورهم لكن عليهم الانحناء تحت العامود الأفقى الثابت. أرى الطلبة فى تكدسهم حول الفتحة الصغيرة التى صنعوها ينتظرون دورهم بصبر حتى يمروا إلى الجهة الأخرى من الحديقة ليكرروا نفس العملية فينحنوا مرة أخرى ليخرجوا إلى الجانب الآخر من الطريق. أراقب الوضع فى الأيام التالية فأرى الأعمدة وقد عادت إلى مكانها فيكرر الطلبة إزالتها ويكرر ممثلو الدولة إعادتها.
<<<
يخوض الطلاب هذا الطقس اليومى بعد وصولهم إلى الجامعة والعديد منهم يصل بالمترو الذى تبدو لى قصته هو الآخر غير مفهومة. فالجامعة تخدمها الآن محطتا مترو هما منشية الصدر والعباسية وكلاهما تبعد مسافة كبيرة عن الجامعة. بالتأكيد لم يكن هناك أى عائق فنى يحول دون وضع محطة المترو فى مكان أقرب للجامعة بل وأن يخصص مخرج للمترو داخل حرم الجامعة نفسها. لا تفسير سوى غريزة القهر والتحكم والتى ينتج عنها كم هائل من الفوضى مع انتشار الميكروباصات التى تحتل جميع الفراغات فى الشوارع المؤدية للجامعة، ويقوم معظمها بنقل الطلبة من محطة المترو إلى حرم الجامعة أو يضطر الطلبة إلى قطع مسافات هو ليست شاسعة فى المطلق ولكنها مسافات كبيرة وتسبب لهم إرهاقا خاصة فى الظروف الجوية الصعبة من حر أو برودة شديدين.
<<<
قد تبدو القصة تافهة وقد يصعب إطلاق صفة القهر على كل تفصيلة على حدة لكن هذا بالتحديد هو سمة القهر البطىء المتغلغل حتى يحار المقهور نفسه فى تشخيص حالته. كما يصعب عليه وصفها، ويتردد حتى فى اعتبار نفسه مقهورا فهو لا يملك رواية متماسكة ولا دراما تشد الانتباه. المسألة هنا تتعدى التشخيص المعتاد من غياب التخطيط أو سوء الإدارة لتبدو أقرب إلى تعمد ممارسة أنواع مريضة من التسلط بحيث تصبح الحياة الاعتيادية غير معقولة بالمرة وحيث يأتى القهر رتيبا وبطيئا يكاد لا يُلحظ لكنه يتحكم فى نوعية الحياة ويجعلها أشد وطأة.