كان المفترض أن تحل الذكرى الخامسة لثورة الخامس والعشرين من يناير وقد اكتملت خارطة الطريق بانتخاب برلمان جديد، والبلد على بداية طريق الأمن والاستقرار، والشعب بدأ يجنى ثمار التنمية الاقتصادية. هكذا كانت الوعود والآمال فى مطلع العام الماضى. ولكن بدلا من ذلك فإن الشعور السائد فى مصر الآن ــ بين مختلف الأوساط والفئات والطبقات الاجتماعية ــ هو شعور بالخوف والقلق من المستقبل والشك فى استمرار المسار السياسى والاقتصادى الراهن.
تزايد القلق والاحتجاج لم يأت فقط من التيارات المعارضة والدوائر الشبابية، بل من صفوف حلفاء الدولة الذين ارتفعت أصواتهم اعتراضا على سوء الإدارة، خصوصا فى المجال الاقتصادى. التجار يشكون من اضطراب سعر الصرف. والمصنعون يعانون من البيروقراطية وارتفاع تكلفة الإنتاج.
وموظفو الدولة يتوجسون من نوايا الحكومة بعد الهرج الذى أثاره قانون الخدمة المدنية.
وأصحاب الخبرات والطاقات المعطلة لا يجدون استعدادا من السلطة للاستعانة بهم. والعاملون فى السياحة قابعون فى منازلهم فى انتظار الفرج. ورجال الأعمال يشكون غياب الرؤية الاقتصادية واعتماد الدولة على الغرامات والتبرعات لسد عجز الموازنة. أما الفقراء والمعدمون فلا ملاذ لهم من الارتفاع المطرد فى الأسعار والتدهور فى الخدمات العامة. وهذه حالة خطيرة لأن الطبيعى أن يكون لكل نظام أنصاره وخصومه، المستفيدون من سياساته والمتضررون، أما أن تسود هذه الحالة من القلق والتوجس بين كل الفئات والطبقات، فهذا أمر مختلف وينذر بعواقب وخيمة.
والنتيجة أنه بعد التضحيات الجسيمة التى قدمها شهداء الثورة، ورجال الجيش والشرطة فى المعركة ضد الإرهاب، وعلى الرغم من صبر المواطنين على مصاعب الحياة اليومية، فإن الذكرى الخامسة للثورة تأتى فى ظل أجواء محتقنة وقلق متصاعد وشعور عام بأننا عدنا إلى حالة انتقالية تمهد لتغير وشيك. ولا أقصد بذلك ثورة ثالثة، ولا نزولا فى الشوارع، ولا تغييرا فى الحكم.
فالأغلبية من الشعب المصرى قد أُنهكت من مشقة وتحديات السنوات الخمس الماضية ولا أظن أن لديها استعدادا للدخول فى مغامرات جديدة، بل تتمنى للدولة أن تنهض ولقيادتها أن تنجح وللأوضاع أن تستقر. ولكن هذا لا يعنى أنها راضية عن الوضع الحالى لأن إخفاقات العام الماضى ــ وبالذات على الصعيد الاقتصادى ــ تسببت فى انحسار ثقة الناس وتراجع استعدادها للتضحية وتفاؤلها بالمستقبل. والخروج من هذه الحالة لن يكون ممكنا إلا بتغيير شامل فى المسار الذى تسلكه الدولة.
هذا التغيير لن يكون مفيدا لو اقتصر على استبدال بعض الوزراء والمحافظين بوجوه جديدة أو الإعلان عن مبادرات لتخفيض الأسعار وتوزيع المساكن. التغيير المنشود يقتضى وضع خارطة جديدة للطريق، تعيد الاعتبار للدستور والقانون، وتضبط أداء أجهزة الدولة المتصارعة، وتقدم رؤية اقتصادية واضحة للمستقبل، وتحقق توافقا فى المجتمع وتهدئة فى الشارع. بدون ذلك فإن النتائج لن تتغير والقلق لن يتبدد. ولكى لا يكون حديثى مقتصرا على العموميات، فإن ما أطرحه تحديدا هو بدء حوار جاد بين الدولة والمجتمع، من خلال الأحزاب والنقابات وجمعيات الأعمال والمنظمات الأهلية ووسائل الأعلام وغيرها، حول الملفات التالية:
أولا: وضع برنامج قومى للإصلاح الاقتصادى يتجاوز مجرد الإعلان عن أرقام مستهدفة للنمو والتضخم، إلى تحقيق الحد الأدنى من التوافق حول أولويات الإنفاق العام، وكيفية تنمية الاستثمار والحد من البطالة، وتوفير الحماية الاجتماعية لمن يستحقونها، ورفع مستوى الخدمات والمرافق العامة القائمة قبل الاندفاع نحو المزيد من المشروعات العملاقة. ويرتبط بذلك إعادة النظر فى دور القوات المسلحة فى إدارة الشئون الهندسية والاقتصادية للبلد بما يحافظ على مكانتها ويبعدها عن الانخراط فى تفاصيل ومجالات لا ترتبط بمهمتها المقدسة فى الدفاع عن سلامة وأمن الوطن والمواطنين.
ثانيا: التمسك بالدستور نصا وروحا، وإعادة الاستقلال والهيبة للقضاء، والتزام الدولة بالقانون والتوقف عن التدخل فى شئون العدالة، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات والمكبلة للنشاط السياسى والأهلى، والعمل على تطوير جهاز الشرطة بما يرفع من كفاءته وفاعليته فى إطار احترام الدستور والقانون وحقوق المواطنين.
ثالثا: إنهاء حالة الإقصاء السياسى لكل الأطراف التى تنبذ العنف وتقبل العمل فى إطار الدستور والقانون، وعلى رأسهم الشباب المستبعد من الساحة والملاحق بقوانين مقيدة للحريات، والمنتمون إلى التيار الإسلامى الواسع ممن لم يتورطوا فى العنف أو فى مساندته أو التحريض عليه، والمحسوبون على نظام مبارك ممن لم تثبت عليهم جرائم فساد أو قتل أو تعذيب ولا يزالون مهددين ومعطلى الطاقة بسبب الملفات المفتوحة والتحقيقات الجارية منذ سنوات.
رابعا: رفع القيود عن الجمعيات الأهلية والأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدنى، وذلك فى إطار قانون جديد يحافظ على مقتضيات الأمن القومى، ولكن دون أن يجهض النشاط الأهلى الذى يساهم فى تنمية الموارد والحد من الفقر المدقع، ويتيح قنوات هامة للتفاوض فى المجتمع، كما تقع عليه مسئولية حماية حقوق الناس ومراقبة سلوك الدولة.
خامسا: وضع برنامج قومى لمكافحة الفساد، لا يكتفى بإلقاء القبض على بعض المسئولين، ولا الإعلان عن قضية كبرى تلهب خيال الرأى العام ومشاعره، بل يستند إلى سن قوانين مكافحة الفساد، ومنع تعارض المصالح، وإتاحة المعلومات، وتطوير كفاءة ومهارات الأجهزة الرقابية للتعامل مع الجرائم المالية الحديثة، والتوقف عن استخدام موضوع الفساد وسيلة لتصفية الصراعات السياسية.
سادسا: وضع وتطبيق ميثاق أو قانون للشرف الإعلامى بما يضع نهاية لحالة الانحدار المهنى والأخلاقى ولسيطرة مجموعة محدودة من رجال الأعمال على وسائل الإعلام ولتدخل الدولة فى توجيه الرأى العام. وهذا لا يعنى تقييد حرية الرأى والتعبير أو اتخاذ الوضع الحالى ذريعة لمزيد من التضييق على الأصوات المعارضة، بل توفير المناخ الذى يسمح بالإبداع والنقد والحوار بعيدا عن أجواء التحريض والتخوين والإقصاء التى دفعت بالمجتمع إلى الانقسام والكراهية.
هذه الملفات لن يمكن حسمها بتشريع من البرلمان، ولا بقرار حكومى، ولا توجيهات من رئيس الجمهورية، بل لا مفر من اقتحامها من خلال حوار فى المجتمع، قد يستغرق وقتا، وقد يثير شجونا وخلافات، وقد يتطلب تضحيات وتنازلات من كل الأطراف، ولكنه يستحق الجهد لأنه باب الخروج الوحيد من المسار الحالى الذى لن يحقق استقرارا ولا تنمية.
بعد خمس سنوات من المشاق والتضحيات التى طالت الجميع، والأخطاء التى وقعت من كل الأطراف، حان الوقت لطى صفحة الماضى وفتح صفحة جديدة من الإصلاح والتغيير الإيجابى. فهل تجد هذه الدعوة استجابة من الدولة؟ وهل تجد قبولا من القوى السياسية والاجتماعية الحريصة على صالح الوطن؟