الحاكم الفرد مغرم دائما بـ«المشاريع القومية العملاقة» فهى جزء لا يتجزأ من حلمه بالخلود والمجد الأبدى. هى أيضا مفيدة جدا كأداة حكم تكثف وعودا كثيرة وتصور الأمر كأن حلولا نهائية لمشكلات ضخمة ستتحقق دفعة واحدة مع تجسد المشروع العملاق بعد بضع سنين. المطلوب فقط هو القليل من الصبر والكثير من الحماس والكثير جدا من التصديق على بياض. فى أجواء المشاريع القومية العملاقة لا يحدثنا أحد سوى عن العقبات المالية وقد يشركنا الحاكم أحيانا فى خططه لتدبير الأموال: بعض المساعدات من أصدقائنا مع بعض التبرعات والكثير من التقشف مع عدم إرهاقه بالأسئلة والطلبات الأخرى.
على المجتمع أن يكون أكثر يقظة مما هو عليه فى استقباله لأخبار المشاريع القومية العملاقة ليس فقط لأنها تعزز رخصة الحاكم فى التصرف منفردا فيما يخص القرارات الاقتصادية. وأقول «الأخبار» هنا تجاوزا فنحن لا نحصل على أخبار أو معلومات قدر ما نحصل على صيحات حماسية فى ظل حالة تعبئة قومية تبشرنا بانطلاقات وتقدم وسيادة واستقلال.. إلخ، علينا بدلا من الانجراف إلى الحماس الصرف أن نكون أكثر انتباها لأن المشاريع العملاقة لا تبتلع الموارد الاقتصادية فقط وإنما تكمن تبعاتها الأهم فى تأثيرها على الموارد الطبيعية وعلى السلامة البيئية فيصبح السؤال الأجدر بتوجيهه للحاكم والإصرار على تلقى إجابات واضحة عليه هو ماهية تأثير تلك المشاريع على البيئة وعلى الموارد الطبيعية المحدودة. أين الدراسات الخاصة بتأثير مشروع قناة السويس على البيئة البحرية وما هى الاحتياطات التى تم اتخاذها فى ظل أخطار التغير المناخى؟ من أين ستأتى المياه اللازمة لاستزراع مليون فدان وما مدى استدامة تلك المصادر؟ هل يستهدف المشروع مثلا ازدهارا مؤقتا باستهلاك مصادر مياه جوفية ناضبة هى ملك الأجيال القادمة؟ وأخيرا وليس آخرا كيف يسمح المجتمع ببناء مفاعل نووى دون أن يحصل على حقه فى المعرفة الوافية للتأثيرات النهائية التى لا رجعة فيها لمثل هذا المشروع وكيف يتخلى عن حقه فى المشاركة فى قرار بمثل هذه الخطورة على الحياة الحالية والمستقبلة؟ تزداد خطورة هذه الأمور فى ظل الأجواء القمعية التى لا تسمح بحوار جاد من أى نوع وفى ظل تعليق فعلى للدستور الذى ينص فى مادة 32 على أن «موارد الدولة الطبيعية ملك للشعب، وتلتزم الدولة بالحفاظ عليها، وحسن استغلالهـا، وعدم استنزافها، ومراعاة حقوق الأجيال القادمة فيها».
تتمتع المشاريع القومية العملاقة بحصانة وقدسية تعرض من يطرح تساؤلات بشأنها إلى تهم تتضمن الجهل وبث اليأس وصولا إلى التخوين وعضوية الطابور الخامس. المطلوب هو العكس فالمشاريع العملاقة بالذات تحتاج إلى دراسات عملاقة ومناقشات عملاقة ومراقبة شعبية عملاقة وإلا انتهت بكوارث عملاقة.