شيطانى وغير وطنى وغير أخلاقى - جلال أمين - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 10:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شيطانى وغير وطنى وغير أخلاقى

نشر فى : السبت 1 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 1 يونيو 2013 - 8:00 ص

قبل ثورة 2011 بنحو عامين، فوجئ المصريون بمشروع غريب قام بإعلانه وزير الاستثمار فى ذلك الوقت (محمود محيى الدين) ودافع عنه بقوة وزير المالية (يوسف بطرس غالى)، وعرف باسم «الصكوك الشعبية».

 

كان المشروع، الذى سمى أيضا «إدارة الأصول المملوكة للدولة»، يتضمن توزيع ملكية 86 شركة من شركات القطاع العام، فى صورة صكوك تعطى مجانا، ودون تمييز، للمواطنين الذين يزيد عمرهم على 21 عاما، وأن يتم هذا التوزيع فى مدة لا تتجاوز سنة ونصف السنة، وأن يكون لهؤلاء الملاك الجدد حق التصرف فيها بالبيع إذا شاءوا، أو الاحتفاظ بها والحصول على عائدها.

 

كان لا بد أن تثور شكوك قوية حول الغرض الحقيقى من طرح هذا المشروع فجأة ودون تمهيد، والإعلان عن نية استصدار قانون به من مجلس الشعب فى الدورة الجارية، وفى ظل أزمة عالمية عاتية من شأنها حفز أى راغب فى البيع على التأنى فى البيع. هل من الممكن أن يكون الدافع إلى هذا الإصرار والتعجل فى إصدار القانون، يتعلق بالأزمة العالمية نفسها، إذ يسهل حصول البعض، فى الداخل والخارج، على أصول القطاع العام المصرى، بأقل أسعار ممكنة؟ وهل خطر بذهن البعض، مع ما قوبلت به عمليات الخصخصة فى مصر، طوال العشرين عاما الماضية، من صعوبات واعتراضات واحتجاجات، أنه يستحسن الآن القيام بالخصخصة أو البيع «بالجملة»، وأن يستخدم فيها بعض الشعارات الخادعة من أجل التمويه على الناس، وإيهامهم بأن ما يتم الآن ليس من قبيل الخصخصة بل هو شىء آخر تماما؟

 

تذكرت كل هذا بمناسبة ما طرح من جديد، منذ فترة قصيرة، وفى ظل نظام جديد، هو نظام الدكتور مرسى.. ما سمى بمشروع «الصكوك الإسلامية». فقد اتسم المشروعان (الشعبية والإسلامية) بسمات مشتركة، منها الفجائية والتعجل، وطرحهما من خلال أزمة عالمية مستحكمة (لم تنقشع بعد)، وتعمد الغموض فى صياغة كل منهما، مع استخدام وسائل لتضليل الناس عن حقيقتهما.

 

ففى حالة الصكوك الشعبية، قالت الحكومة إن الهدف من المشروع هو «توسيع نطاق الملكية». فما هى يا ترى الملكية الأوسع من الملكية العامة؟ وليس هناك شىء يمنع متسلمى الصكوك من بيعها لآخرين، بل وهذا هو الأرجح فى ظل الفقر المدقع للمصريين، وقلة العائد السنوى المتوقع من الصكوك، ودون أن تقدم أى ضمانات جدية تمنع أن تنتهى هذه الصكوك إلى أيدى عدد قليل من المحتكرين، ودون أن تنبس الحكومة ببنت شفة تعبر بها عن اعتراضها على أن تئول الملكية إلى أجانب.

 

أذكر أيضا أن وزير المالية فى عهد مبارك ظهر على شاشة التليفزيون ليوهم الناس بتفاهة المسألة كلها، وعدم استحقاقها كل هذا القلق، فقال إن الشركات التى يتضمنها المشروع الجديد تنتج أشياء مثل البسكويت والملابس الداخلية، مع أنها فى الحقيقة تضم شركات من أكبر وأهم الشركات الصناعية المصرية كالحديد والصلب والألومنيوم. أضف إلى ذلك أن المشروع لم يذكر على سبيل الحصر أسماء الشركات التى سيشملها المشروع، بل استخدم أسلوب ذكر الأمثلة، مما يفتح الباب لعملية كبرى من البيع بالجملة.

 

•••

 

فى حالة الصكوك «الإسلامية» أطلق وصف الإسلامية على مشروع لا علاقة له بالإسلام، وقيل إنه سيعرض على مؤسسة الأزهر لإقراره، مع أن علماء الدين ليسوا أقدر الناس على تقدير ما إذا كان نافعا أو ضارا. ويردد أصحاب المشروع التمييز بين ملكية الدولة العامة وملكية الدولة الخاصة، وكأن تنازل الدولة عن الثانية لا غضاضة فيه بعكس التنازل عن الأولى. كما يرددون أن التنازل هو فقط عن حق الانتفاع وليس عن الملكية، وكأن التنازل عن حق الانتفاع لمدة ستين عاما (كما تسمح المادة 8 من القانون، وتسمح أيضا بإعادة تأجيرها لمدد أخرى) ليس فيه تفريط فظيع فى حقوق المصريين. لماذا إذن فرح المصريون فرحا شديدا بتأميم شركة قناة السويس فى 1956؟ إن القناة نفسها لم تكن هى محل التأميم بل حق الانتفاع بها.

 

نلاحظ أيضا فى قانون الصكوك الإسلامية عدم ذكر أى مشروع أو صناعة واحدة بالاسم، وإنما يذكر فقط أنه يجوز إصدار هذه الصكوك من جانب «الحكومة، والهيئات العامة، ووحدات الإدارة المحلية، وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة» (مادة 4) أى كل ما يمكن أن يعتبر من «القطاع العام».

 

نفس هذه الدرجة المعيبة من التعميم والغموض نجده فى مشروع القانون الذى تجرى محاولة تمريره فى نفس الوقت، وهو ما يسمى مشروع «إقليم قناة السويس». فهذا المشروع ينشئ هيئة لا أظن أن هناك سابقة لمدى اتساع اختصاصاتها وسلطاتها، وتئول إليها ملكية أراض لا تحدد تحديدا واضحا أو نهائيا، وتعفى تصرفاتها فى هذه الأراضى وما يئول إليها من أموال، من أى قيود تفرضها النظم الحكومية السائدة...الخ.

 

إن أى عاقل لا بد أن يربط بين مشروع الصكوك ومشروع إقليم قناة السويس، وأن يرى فى كليهما معا محاولة خبيثة لإتمام عملية «بيع بالجملة» لأصول مصرية ليس هناك أى مبرر اقتصادى للتنازل عن ملكيتها للأفراد، وهناك أكثر من سبب للشك فى رغبة بعض الأطراف الأجنبية (بمعونة أطراف فى الداخل) فى وضع اليد عليها لأسباب اقتصادية وسياسية.

 

•••

 

فى سنة 2009، نشر لى كتيب صغير (فى 45 صفحة) أبديت فيه رأيى فى مشروع الصكوك الشعبية، وكان الكتيب يحمل عنوان «مشروع شيطانى: تحويل القطاع العام إلى صكوك للبيع» (نشرته أوراق عربية للنشر والدراسات). وقد وصفت فيه هذا المشروع بأنه «مشروع شيطانى وغير  وطنى ولا أخلاقى». وبررت ذلك بالقول بأنه «شيطانى لأنه يتظاهر بغير الحقيقة ويحاول استغلال نقطة ضعف فى معظم المصريين هى فقرهم، الذى يدفعهم دفعا إلى البيع مع التظاهر بأن المتوقع منهم كان غير ذلك، وغير وطنى لأنه يسمح ببيع أصول كان من المصلحة الإبقاء عليها فى يد الدولة المصرية أو على الأقل فى أيدى أفراد مصريين، ولا أخلاقى لأنه يفتقر إلى الشجاعة التى تتمثل فى قول الحقيقة كاملة وفى أن يتحمل متخذ القرار المسئولية عن اتخاذه وعدم إلقاء المسئولية على الآخرين».

 

وقد أغلق ملف ذلك المشروع لحسن الحظ، ولم يعد نظام مبارك لذكره حتى سقط رأس النظام فى فبراير 2011. وربما كان السبب فى صرف النظر عن المشروع، ليس فقط ما لقيه من معارضة، ولكن أن أصحاب المشروع (وكان من بينهم جمال مبارك نجل الرئيس السابق) فضلوا فيما يبدو إتمام مشروع التوريث على مشروع البيع بالجملة.

 

والآن نفاجأ بمشروعين لهما أهداف مماثلة، صدر بأحدهما قانون بالفعل، والآخر لايزالون يحاولون تمريره. وكل منهما فى رأيى يستحق ما وصفت به مشروع الصكوك الشعبية: شيطانى وغير وطنى ولا أخلاقى، ولنفس الأسباب التى ذكرتها حالا.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات