من بين نساء عديدات أبت مسيرة التاريخ الإنسانى إلا أن تتوقف عندهن وتفسح لهن متسعا من الحضور والتأثير فى مجراها المتدفق، تطل المرأة الملكة التى حكمت مملكة سبأ ببلاد اليمن، وبطلة القصة الشهيرة مع النبى سليمان بن داود، عليهما السلام، والتى تبارت فى سبر أغوارها السرديات التاريخية والإبداعات الأدبية، بعدما تعرضت لها الكتب السماوية وأفرد لها المولى عز وجل قسطا معتبرا من الذكر فى قرآنه المجيد، بسورة النمل، دون التصريح باسمها، شأنها فى ذلك شأن إحدى وعشرين امرأة تناولهن النص القرآنى، دونما ذكر لأسمائهن، عملا بمبدأ «الإيجاز المعجز»، الذى يعتمد طرقا ثلاثة للتعريف بالأشخاص، هى الاسم والكنية واللقب، يتم اختيار أبلغها تعبيرا عن الشخص وأقربها تحديدا لهويته حسبما يقتضيه المقام أو يوجبه السياق، ولم يستثن الحق تبارك وتعالى من ذلك سوى السيدة مريم ابنة عمران أم سيدنا عيسى المسيح عليه السلام، والتى أورد اسمها صراحة فى غير موضع بكتابه العزيز.
أما عن ملكة سبأ، فتوشك جل الروايات التاريخية التى تستند، فى غالبيتها، إلى مرجعيات لاهوتية جلها توراتى وبعضها تأويلى إسلامى للقرآن والسنة النبوية والأثر، أن تجمع على أن اسمها هو بلقيس بنت شراحيل، وأنها اعتلت عرش سبأ خلال القرن العاشر قبل الميلاد، وخلافا لمثيلاتها ممن تعرض لهن الذكر الحكيم، تجلى الوصف القرآنى غير المسبوق لملكة سبأ، والتى صورها كأحسن ما تكون المرأة الملكة، فعلى رغم شركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله، حسبما أكدت تقارير استخبارات النبى سليمان ممثلة فى الهدهد الغيور على عقيدة التوحيد، إلا أن المولى عز وجل لم يحرمها من وافر عطائه الدنيوى، ليصفها فى كتابه الكريم وعلى لسان الهدهد، بأنها «تملكهم»، يقصد قوم سبأ، و«أوتيت من كل شىء»، و«لها عرش عظيم».
ففى قوله تعالى «امرأة تملكهم»، إشارة واضحة إلى إحكام الهيمنة والسيطرة وكمال التمكين من قبل الملكة بلقيس على مختلف مفاصل السلطة وشتى أصقاع البلاد بغير منغصات أمنية أو سياسية على شاكلة تحديات التغلغل، وأزمات الشرعية، أو مناوئة الحكم من خلال محاولات التمرد أو الحركات الانفصالية، فعلى رغم كونها أول امرأة ملكة تنتزع حكم سبأ بشق الأنفس، ظلت الملكة بلقيس تنعم بحالة من الرضاء التام والولاء المطلق من قبل قومها، لاسيما بعد أن حققت مقاصد الدولة وأنجزت مهام النظم الحاكمة على الوجه الأكمل، إذ حيدت الأعداء بعدما كسرت شوكتهم وأمنت البلاد والعباد من شرورهم، ووطدت أركان ملكها بالعدل وساست شعبها بالحكمة، كما رسخت أسس التنمية الشاملة والمستدامة بعدما قامت بترميم سد مأرب الذى نالت منه السنون، وأرست دعائم الديمقراطية ودولة المؤسسات، واعتمدت الآليات السليمة لصنع واتخاذ القرار، حتى أضحت مملكة سبأ طيلة سنى حكم بلقيس، واحة للاستقرار والازدهار والتألق الحضارى.
أما قوله جلت صفاته «وأوتيت من كل شىء»، والذى لم يتكرر فى القرآن الكريم لدى وصف أى من نساء العالمين، فأحسبه قولا جامعا مانعا، يفسح العنان للخيال، كى ما يصول ويجول فى تصور كمال وروعة تلك الملكة، فرغم أن التاريخ البشرى حفل بنماذج عديدة لملكات نابهات فى مشارق الأرض ومغاربها كحتشبسوت فى الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة، وكليوباترا إبان العقد الخامس قبل الميلاد، وزنوبيا ملكة تدمر فى القرن الثالت الميلادى، وغيرهن كثيرات، إلا أن أيا منهن لم تحظ بشرف الذكر وجمال الوصف بالكتب السماوية، أو تستهوى مدونى السير التاريخية وأصحاب الأعمال الأدبية، بنفس القدر الذى تسنى لبلقيس ملكة سبأ، والتى منَّ الله عليها بأسباب التمكين والسعادة والفخر فى دنيا الناس، من جمال الخلقة وحسن الخلق ورجاحة العقل وحسن التفكير وحزم التدبير، والشخصية القيادية، فضلا عن سمو الجاه وعلو النسب، وباستثناء ما وهبه الله لنبيه سليمان من ملك، لا ينبغى لأحد من بعده، فقد اجتمعت لبلقيس جميع ركائز الملك العضود من جيش محترف ذى بأس شديد، وحاشية حصيفة تدين لملكتها بالولاء، ولا تتوان فى تقديم النصح والمشورة، أو تتقاعس عن التضحية بالغالى والنفيس طاعة لملكتهم ونصرة لها، وإلى عظم سؤدد ملكة سبأ أشار القرآن الكريم بالقول «ولها عرش عظيم»، وهو الذى حارت الأقلام والأفهام فى وصفه، حتى ذهب المستند منها إلى مرجعيات تلمودية إلى أن بلقيس كانت تسكن قصرا مشيدا وتتكئ على سرير من ذهب قوائمه من الجوهر واللؤلؤ بما يسلب الألباب ويذهب بالمنطق والأسباب.
ولقد ضربت بلقيس مثالا يحتذى فى إدارتها لأزمتها مع النبى سليمان، الذى أرسل إليها كتابا، يدعوها فيه إلى الإنابة لله ورسوله بأن تأتيه وقومها مسلمين مذعنين، فبمنتهى الحكمة والتعقل، قابلت الملكة الفطنة حزم سليمان وصرامته، غير مغترة بهيبتها أو بأس مملكتها وسطوتها، ومن ثم أدارت الملكة الذكية، التى تدرك حدود القوة وتعى موازين القوى، أزمتها بعبقرية تحسد عليها، فقد عمدت فى البداية إلى الوقوف على حقيقة قدرات سليمان واختبار صبره ومستوى ردود أفعاله حيال تصرفاتها المحتملة، ودونما تضييع للوقت، سارعت الملكة بتشكيل مجموعة أزمة من الخبراء والحكماء وأصحاب الرأى والمشورة وتباحثت معهم فى أمر كتاب سليمان، الذى يمس صلب حياتهم المتمثل فى عقيدتهم التى عكفوا عليها سنين عددا وتوارثوها عن آبائهم وأجدادهم، ولم يغويها سلطانها العظيم أو منح قومها ومستشاروها الأشداء لها تفويضا تاما ومطلقا بالتصرف واتخاذ القرار النهائى، حينما قالوا لها، حسبما ورد فى القرآن الكريم، «والأمر إليك فانظرى ماذا تأمرين»، بالإعراض عن إعمال مبادئ الديمقراطية عبر التشاور والمداولة؛ حيث قالت كما أجرى الله على لسانها وجاء فى كتابه المجيد «يا أيها الملأ أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون».
ولقد تجلى دهاء بلقيس وحسن صنيعها فى اعتمادها خيارا تصالحيا يتناسب وخصوصية مكانة سليمان بوصفه شخصية غير عادية، كونه يجمع ما بين النبوة والملك كوالده داوود عليهما السلام، ويمتلك من قوة البأس وصلاح العقيدة وتأييد الله ما يؤهله لقهر أية قوة على الأرض فى زمنه بغير عناء، فبينما ألمح وزراؤها إلى جهوزيتهم للتصعيد واستعدادهم للمواجهة، حينما قالوا: «نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد»، إلا أن بلقيس صاحبة الرؤية الثاقبة والبصيرة النافذة آثرت أن البدء بإرسال هدية قيمة إلى سليمان مع علية قومها وقلائدهم، تلويحا منها بالتهدئة ورغبة فى كسب الوقت إلى حين عودة المرسلين، بما يخولها مراجعة تقديرها للموقف، ودراسة الأمر بعمق، واختبار نوايا سليمان والإحاطة بإمكاناته والاستراتيجيات المتوقعة من جانبه.
غير أن سليمان، الذى لا تأخذه رأفة بأحد فى دين الله، أدرك مقاصدها واستنكر صنيعها، حتى جاء رده تصعيديا متوعدا بالويل والثبور، حسب النص القرآنى «لنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون»، وهو الموقف الذى يجسد، بلا ريب، صدقية الردع الاستراتيجى؛ حيث لم تعرف البشرية فى ذلك الزمان زعيما بعظمة وعلم سليمان النبى الملك، أو جيشا بقوة جيشه الذى يضم عتاة الجن والإنس والطير والحيوانات الكاسرة، كما ورد فى القرآن «وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون».
عندئذ، أيقنت بلقيس، بعدما بصرت بما لم يبصر به رجالها، أن مكانة سليمان العلية وبأسه الذى لا يقهر، وإقدامه الذى لا يعرف التردد، إنما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه ليس ملكا كسائر الملوك، وأنه لا محالة رسول كريم مشمول بعناية السماء، ومؤيد بنصر الإله الواحد؛ لذلك سارعت ملكة سبأ، الحريصة على مصير رعيتها ومآل مملكتها، فى اتخاذ القرار المناسب وسط بيئة قرارية معقدة للغاية، ما بين حساسية قضية العقيدة وقلة الخيارات الممكنة، مع ضيق الوقت وجدية تهديدات سليمان، وبناء عليه جاء قرارها الحاسم بالامتثال لأمره، فجمعت حاشيتها وجنودها، واتجهت فى جمع منهم إلى بيت المقدس حيث مقر عرش النبى الملك.
وبينما هى محاصرة بين يدى من كان ينذرها بهلاك محقق بالأمس القريب، ووطأة صولجانه المبهر، الذى فوجئت بعرشها مستقرا عنده، بعدما جىء به إليه فى لمح البصر، فيما أذهلها صرح سليمان الممرد من قوارير والذى حسبته لجة وكشفت عن ساقيها إبان سيرها عليه، أظهرت ملكة سبأ من التماسك ورباطة الجأش ما لا يتسنى لكثير من الملوك الرجال فى مثل هذا الموقف الصعب، فما كان الانبهار اللافت الذى تملكها عند رؤية صرح سليمان الذى لم يعهده البشر، ليسلبها الاتزان والروية فى ردها على سؤاله إياها كما ورد فى النص القرآنى «أهكذا عرشك؟!»؛ حيث كان ردها مثلما جاء بالقرآن أيضا: «كأنه هو»، إذ لم تجزم بأنه هو لتيقنها من تركها له بمأمن فى سبأ غير متصورة أن يتسنى لأية جهة، مهما كان مبلغها من القوة، الاجتراء على انتزاعه من قبضة حراسها الأشداء وجلبه من مملكتها إلى الشام فى وقت قياسى، كما أنها لم تنف أن يكون هو عرشها بالفعل؛ ثقة منها فى قدرة سليمان الخارقة المستمدة من قدرة الإله الخالق على النيل منه، وثقتها فى أن ما عرضه أمامها يشبهه حقا رغم التغيير والتنكير الذى ألحقه به سليمان بقصد التمويه لاختبار فطنتها.
ولقد أبلت الملكة الحكيمة بلاء حسنًا وأظهرت فيض رشادة وحسن تدبير،حينما لم تتردد فى إعلان الإيمان بالله ونبيه، بل والاعتراف بالخطأ وبطلان ما كانت عليه فيما مضى من فساد العقيدة، خصوصا بعدما أيقنت أنها وقومها كانوا ظالمين لأنفسهم بشركهم وعبادتهم لغير الله، حتى أنها دشنت صفحة جديدة مع ربها بطلب عفوه عن ذلك الضلال البعيد، ويحسب لبلقيس أنها لم تسلم لله على تخوف من سليمان وجبروته، وإنما قناعة منها بدعوة الحق؛ حيث جاء فى الذكر الحكيم «قالت ربى إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين»، فلم تقل إنها أسلمت لسليمان وإنما معه، والمعية هنا تفيد الاقتناع وتقدير الخالق العظيم حق قدره دون الافتتان بما تراءى لها من مكانة سليمان وعظمة ملكه وفخامة عرشه أو حتى الخشية من جدية وصدقية وعيده، فلكم حفل القصص القرآنى بتجارب لأقوام وملوك أبوا إلا البقاء على كفرهم وضلالهم حتى الهلاك، جاحدين بما جاءهم من العلم والبينات، مستنكرين ما أيد الله به رسله وأنبيائه من عجيب المعجزات والآيات.
فبفضل نفاذ بصيرتها وحسن بلائها، نأت بلقيس، بنفسها ورعيتها عن تداعيات مراوغة المرأة ومكابرة الملوك؛ حيث جنحت بفراستها وفطنتها، لالتماس النجاة الحقيقية لها ولمملكتها عبر الاهتداء بضياء الحق المبين، بدلا من الهلاك المحقق فى ظلمات الكفر والضلال إثر مواجهة خاسرة وغير متكافئة مع قوة الحق الضاربة، ومثلما غدت سير أكمل نساء الأرض، كخديجة بنت خويلد أولى أزواج خاتم الأنبياء محمد (ص)، والسيدة مريم العذراء البتول، وآسيا امرأة فرعون، مضربا للأمثال الإلهية ونموذجا يحتذى لكل نساء العالمين، فقد جسد ذكر المولى، جلا وعلا، لقصة ملكة سبأ، فى كتبه السماوية بكل ما تنطوى عليه من رسائل ودروس وعبر، دليلا ساطعا على إعلائه سبحانه وتعالى من شأن المرأة المؤمنة الرشيدة، فى كل زمان ومكان، لتبقى نبراسا مضيئا وقبسا ملهما لبنى البشر قاطبة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.