منذ سنوات كثيرة «تزيد على الخمسين»، وفى أثناء دراستى فى إنجلترا رأيت فيلما قصيرا للصور المتحركة، مما يعرض أحيانا لدقائق قليلة قبل عرض الفيلم الأساسى. كثيرا ما أعود إلى تذكر هذا الفيلم القصير لأنه يتعلق بالموضوع الذى أنا بصدده الآن: لماذا نقرأ الصحف؟
فى الفيلم يظهر رجل راقد على سريره، ثم يسمع قبيل استيقاظه صوت شىء يلقى به داخل بيته من خلال فتحة الباب المخصصة لإلقاء البريد. يقوم منزعجا فيجد أن ما ألقى إليه هو الصحيفة اليومية. من تصرف الرجل نفهم أنه كان قد قرر الامتناع عن قراءة الصحف امتناعا تاما. ومن ثم ألقى بالصحيفة فى صندوق القمامة وعاد إلى سريره لمواصلة النوم. عندما يتكرر الأمر فى اليوم التالى يقوم الرجل بسد فتحة الباب بقطعة من الخشب ويدقها بمسامير. فى اليوم التالى يستيقظ الرجل على صحيفة تلقى إليه من فتحة فى النافذة، فيقوم بسد هذه الفتحة أيضا. يفاجأ بعد ذلك بأن الصحيفة تلقى إليه من مدخنة المدفأة، فيسد المدفأة أيضا. لا أذكر كيف انتهى التعليم، ولكن القارىء يستطيع أن يكمله على أى نحو يشاء، والذى يهمنى فقط هو اتخاذ الرجل هذا القرار الصارم بالامتناع التام عن قراءة الصحف.
لقد لاحظت فى بعض الأيام التى لا أقرأ فيها الصحف فى يوم صدورها، لسبب أو آخر، أننى عندما أشرع فى قراءة الصحيفة القديمة بعد بضعة أيام من صدورها، أجدها قد فقدت الجزء الأكبر من فائدتها. فالأخبار أصبحت قديمة، والعناوين لم تعد مثيرة، والتصريحات صدر غيرها لينفيها أو ليقلل من أهميتها، ما كل هذا الحماس إذن لقراءة الصحيفة يوم صدورها؟
قرأت مرة أن أول صحيفة صدرت فى الولايات المتحدة، وكان هذا منذ نحو ثلاثة قرون، عندما كانت لاتزال مستعمرة بريطانية، لم تصف الصحيفة نفسها بأنها صحيفة يومية أو أسبوعية أو شهرية بل كتبت فقط فى صفحتها الأولى أنها «صحيفة تصدر عند الحاجة». أى عندما توجد أخبار مهمة تستدعى إعلام الناس بها، كم كان هذا القرار حكيما. الآن نحن نتصور «أو تصوّر لنا وسائل الإعلام» أنه فى كل يوم يحدث شىء مهم يستدعى مانشيتات كبيرة، ولكى يستمر اقناع الناس بذلك، يضخم الخبر التافه حتى يوحى بأهمية تستحق المانشيتات الكبيرة. ولكن هذا ليس أسوأ ما فى الأمر. الأسوأ هو ما تحفل به الأخبار والتصريحات بمعان هى عكس الواقع بالضبط، حيث يقول المسئولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يقولون، ويعطون أسبابا لما يفعلون لا تكفى لإقناع طفل صغير عاقل، ولكن يصدقها معظم الناس لأسباب مختلفة، ولو لمجرد تكرار المعنى نفسه عدة مرات فى مختلف وسائل الإعلام.
ما هو التصرف السليم الذى يجب اتخاذه إزاء شخص تعوّدنا منه الكذب باستمرار؟ ألا نزهد فى الالتقاء به، بل وقد نقرر تجنب مقابلته إلى الأبد؟ لماذا إذن نستمر فى قراءة الصحف، بل ونتهاتف عليها فى كل صباح، ونحن نعرف كمية الكذب الذى تلقى به إلينا كل يوم؟
قد يُرد على ذلك بأن الصحيفة تحتوى على أشياء أخرى غير الأخبار الكاذبة. هناك أولا بعض الأخبار الصادقة، مثل أخبار الوفيات، ودرجات الحرارة المتوقعة، وما اتخذته الحكومة بالفعل من قرارات بشأن العلاوات، أو فرض منع التجوّل، أو تشكيل حكومة جديدة.. إلخ وهناك أيضا التعليقات على الأخبار سواء بالمقالات أو الرسوم الكاريكاتورية، وهناك الحوارات الصحفية مع سياسيين مهمين، أو مع نجوم الفن .. إلخ.
لاشك أن قراءة هذه الأشياء لا تخلو من فائدة، ولكن دعونا لانبالغ فى حجم هذه الفائدة. فجزء كبير من التعليقات على الأخبار يستمد أهميته من أهمية الأخبار التي يجرى التعليق عليها، ومعظم المعلقين للأسف يعاملون الأخبار كما يعاملها قراؤهم، ويعطونها أهمية أكبر كثيرا مما تستحق. صحيح أن بعض المعلقين يتمتعون بالذكاء والظرف، ولكنهم للأسف يبدون لى أحيانا وكأنهم يبددون مواهب كبيرة فى نشاط قليل الجدوى.
•••
إن القارىء لابد أن يكون قد لاحظ أيضا الزيادة المستمرة فى المساحة المخصصة فى كل جريدة للإعلانات، حتى تكاد تلتهم أكثر من نصف صفحات الجريدة كلها. وحيث إن الربح الذى تحققه الجريدة من الإعلانات أصبح أكبر مما يأتيها من بيع الجريدة نفسها، فإن المعلقين والكتاب الذين تستكتبهم الجريدة يبدون أحيانا وكأنهم يُستخدمون كمجرد طُعم لجذب القراء من أجل إقناع المعلنين بفائدة نشر إعلاناتهم فى هذه الجريدة دون غيرها. وهو ما حدث أيضا للتليفزيون حتى أصبح المعلقون والمحللون السياسيون فى الصحف والتليفزيون يؤدون وظيفة تصب فى نهاية الأمر فى مصلحة المعلنين والسلع التى يريدون بيعها، وقد امتد هذا الأثر إلى جامعى الأخبار ومحرريها، إذ أصبح أصحاب الجريدة لا يهتمون بصدق الخبر بقدر اهتمامهم بجاذبيته وطريقة صياغته، حتى ولو كان كاذبا.
•••
لابد أن نعترف مع كل ذلك بأن الشخص المخادع والكذّاب لابد أن يقول لنا شيئا مفيدا من حين لآخر، وإلا ما صبر عليه أحد. كذلك لابد أن اعترف بأننى مازلت أجد فى بعض الصحف و«أحيانا فى التليفزيون» أشياء تستحق القراءة أو المشاهدة، وهذا هو أحد الأسباب «فضلا عن مجرد الإدمان» لمواظبتى على قراءة عدة صحف كل يوم. إننى أجد فى كل الجرائد التى اقرأها أسماء لبعض الكتاب الذين أحب دائما أن أعرف فيم يفكرون، وكيف عبروا عن هذه الأفكار. هؤلاء الكتاب القلائل تعودت أن أثق بأخلاقهم، وبأنهم لا يحاولون خداعك، فضلا عما لديهم من موهبة التعبير عن انفسهم.
ولكن نسبة هذه الاشياء التى اجدها تستحق القراءة او المشاهدة، آخذة فى التناقص ليس فى بلادنا فحسب بل فى العالم كله.
اننى استطيع مثلا ان أجزم بتدهور الصحافة والتليفزيون فى انجلترا فى الخمسين عاما الماضية (اقصد المحتوى وليس التكنيك).
لقد اختفت الافلام المبهرة التى كانت تجذبنى اثناء دراستى هناك فى اواخر الخمسينيات واوئل الستينيات فى صحف كالاوبزرفر والتايمز وكذلك فى صحيفة الجارديان رغم ان هذه الاخيرة مازالت فى رأيى افضل الصحف الانجليزية اليومية. اما ما حدث للتليفزيون الانجليزى فحدث عنه ولاحرج. لقد اختفت ايضا البرامج التليفزيونية التى اشتريت بسببها جهازا للتليفزيون ( رغم تواضع راتب البعثة الحكومية) فلا اكاد اجد الان فى التليفزيون الانجليزى (كلما اتيحت لى الفرصة) ما يجذبنى لمشاهدته ربما باستثناء البرامج الاقرب للتوثيق منها الى اثارة الفكر او التسلية (مثل ما تذيعه محطة الـ b.b.c من حفلات موسيقية فى الصيف نقلا مباشرا من قائمة البرت الشهيرة، فتكاد تغنى المرء عن الذهاب الى القائمة نفسها).
نعم ان هناك اتجاها لاشك فيه، بكل اسف، نحو اختفاء الاخبار والتعليقات والمقالات والبرامج التليفزيونية الجديدة بالقراءة او المشاهدة، فى بلادنا كما فى غيرها، ولهذا فإن الفيلم الذى ذكرته فى بداية هذا المقال، كان بلا شك بعيد النظر، اذ حاول ان ينبهنا منذ خمسين عاما، الى شيء ندفع الآن ثمنا باهظا لتجاهله.