عندما نذكر كلمة العلم غالباً ما نتخيل أساتذة الجامعة أو علماء يعملون في مراكز للأبحاث وأيضاً نتخيل أشخاص يمتلكون الكثير من الوقت والأموال والإمكانيات للقيام بأبحاثهم وهم في رغد من العيش في بلاد مستقرة، لكن الحقيقية مختلفة عن ذلك كثيراً خاصة في عصرنا هذا، في هذا المقال سنتحدث عن الأماكن التي ينبع منها العلم والأشخاص الذين يثرون حياتنا بأبحاثهم لكننا سنتكلم عن العلم بمعناه الواسع أي أننا سندخل معه العلوم الإنسانية أيضاً.
أول مكان يأتي إلى العقل عندما نذكر منابع العلم هو معامل الأبحاث وفي أغلب البلدان توجد معامل أبحاث ممولة من الحكومات والمفترض أنها تعمل على المشكلات التي تواجهها كل دولة وتحافظ على تفوق هذه الدولة على المستوى الدولي أو تقليل الفارق بينها وبين الدول الأكثر تقدماً، التقدم العلمي هنا ينسحب على مجالات عدة مثل التفوق العسكري ورفاهية مواطني هذه الدولة بل والتفوق الرياضي والفني أيضاً.
معامل الأبحاث هذه تحل مشكلات الدولة أولاً ثم تنشر أبحاثاً علمية (عند السماح بالنشر) ثانياً، والنشر هنا يكون من قبيل قوة هذه الدولة الناعمة لأنك عندما ترى أبحاثاً قوية تأتي من دولة معينة تشعر أنها دولة متقدمة أو تسعى في طريق التقدم وهذا له تأثيره على مجالات التعاون بين الدول المختلفة وتلك الدولة بل ولن نكون مبالغين لو قلنا أنها قد تؤثر على السياحة في هذه الدولة أيضاً!
هذا عن معامل الأبحاث الحكومية فماذا عن تلك المعامل الغير حكومية؟ يوجد القليل جداً من معامل الأبحاث الفردية معامل أبحاث David E. Shaw بنيويورك.
السواد الأعظم من المعامل الغير حكومية هي معامل أبحاث الشركات.
في عصرنا الحالي حيث السوق يعتبر ساحة حرب تتنافس الشركات (أو لنقل تتحارب!) فيما بينها للحصول على أموال المستهلكين، أسلحة الحرب هنا هي الوصول لمنتج أو خدمة أفضل من المنافسين وبتكلفة أقل، هذا يستلزم الكثير من الأبحاث وحسب ميزانية الشركة يكون عمق ونوعية البحث العلمي الذي تقوم به الشركة، الشركات الصغيرة جداً قد لا تكون لها ميزانية للأبحاث وتربح فقط من طرح سلع أو خدمات بسعر أقل، الشركات الأكبر قليلاً تقوم بأبحاث سريعة العائد مثل تحسين خدمة حالية أو منتج حالي، الشركات الكبرى تقوم بأبحاث عن المنتجات الحالية والمنتجات المستقبلية بل وتخلق سوقاً لتلك المنتجات المستقبلية.
حيث أننا نتكلم عن حرب فتلك الأبحاث تعتبر سر حربي لذلك النشر هنا قليل!
قد تجد بعض الشركات الكبرى تنشر أبحاثاً ولكن هذا يكون في إطار التعاون مع الجامعات ويعتبر وسيلة للتواجد على الساحة العلمية لفرز وتعيين الخريجين الجدد لأن البحث عن المواهب الحقيقية ساحة حرب أخرى بين الشركات.
الجامعات هي المكان الآخر الذي يأتي إلى الأذهان حين نذكر منابع العلم، من مهام أساتذة الجامعات بجانب التدريس والوظائف الإدارية القيام بالأبحاث العلمية ونشرها بمساعدة طلبة الدراسات العليا، لكن في عصرنا الحالي ونتيجة التنافس الشديد في النشر (حيث تعتمد الترقية في أغلب الجامعات على النشر العلمي) نجد أن الهدف النهائي هو النشر وليس البحث العلمي، قد تتسائل عن الفارق، الفارق يأتي من عدة جوانب: أولاً عندما يكن هدفك النشر فإنك ستختار الموضوعات التي يكون النشر فيها سهلاً ولن تختار الموضوعات التي قد تهم بلدك مثلاً أو تحل (أو تساهم في حل) مشكلة تواجهها البشرية، ثانية ستحاول مط وتطويل البحث العلمي حتى تنشره على عدة أبحاث وليس في بحث واحد متكامل وهذا يصعب من مهمة من سيقرأون أبحاثك في المستقبل، ثالثاً قد تخطار النشر في مجلات أو مؤتمرات من درجة أقل حتى تزيد فرصك في النشر، ورابعاً قد تخشى من التعاون مع باحثين آخرين خوفاً من أن يسرقوا أفكارك وينشروا قبلك ... هذه مشكلة كبيرة وتُنشر مقالات كثيرة عنها في الخارج لأنها تضر بالبحث العلمي ككل.
المنبع الآخر من منابع العلم قد يكون مفاجأة للقارئ!
المتاحف تعتبر منبعاً أصيلاً من منابع العلم، المتحف ليس مكاناً تذهب إليه لتجلس في الكافيتيريا أو عندما تكون مضطراً، إنه ليس مكاناً لعرض بعض الأشياء القديمة والحديثة مع بعض المعلومات عنها، المتحف يساعد على ربط الماضي بالحاضر لبناء المستقبل.
عندما ترى كيف تطورت الحضارات أو كيف تهدمت حضارات تتعلم دروساً تساعدك على توجيه الدفة العلمية لأبحاثك سواء كنت دولة أو شركة أو حتى فرد ناهيك عن أن متاحف أية دولة ومعروضاتها تعتبر من القوة الناعة للدولة أيضاً، وأحب أن أنوه هنا عن عدد نوفمبر 2017 من مجلة "عالم الكتاب" التي تصدرها شهرياً الهيئة المصرية العامة للكتاب لأنه عدد خاص عن المتاحف وأنشطتها المختلفة (نعم فللمتحف أنشطة أخرى غير عرض المعروضات) وتأثير المتاحف على إقتصاد الدولة وبه مقالات قيمة عن هذا الموضوع المهم.
منبع آخر من منابع العلم هي المكتبات، المكتبات ليست فقط تجميع للكتب والمخطوطات بل تعدت ذلك بكثير في القرن الواحد والعشرين مثل القدرة الكبيرة على البحث في الكتب لاستخراج معلومات عن نقطة معينة تساعد الباحث ومثل عقد الندوات والمناظرات ثم نشرها على شبكة الإنترنت ومثل نشر التقارير عن ما يقرأه الناس وكيف يؤثر ذلك مجتمعياً فالمكتبات منبع علم مثلماً هي ذاكرة العلم.
وأخيراً وليس آخراً هناك الأفراد، عباس محمود العقاد مثلاً كان يقوم بالأبحاث اللازمة لكتبه بنفسه وليس تبع جامعة أو مركز، نفس الشئ يقال عن أعمال كثيرة للدكتور عبد الرحمن بدوي الذي تنقل بين عدة جامعات واستقر به المقام لمدة طويلة في باريس إذ إنه يعتبر مركزاً للأبحاث يسير على قدمين بل وهناك بعض المواقع الإلكترونية تساعد أي شخص على المساهمة في البحث العلمي مثل موقع Citizen of Science أو مواطِن العلم.
هناك الكثير من منابع العلم فهل تستطيع أن ترى موقعك؟ أو تساعد البعض في الوصول إلى مواقعهم؟