دروس سياسية من أكتوبر وثورات يوليو ويناير ويونيو - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 3:53 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دروس سياسية من أكتوبر وثورات يوليو ويناير ويونيو

نشر فى : الخميس 1 أكتوبر 2020 - 11:50 م | آخر تحديث : الخميس 1 أكتوبر 2020 - 11:50 م

فى حياة كل الشعوب والأمم تواريخ محفورة فى ذاكرتها، منها العظيمة والمفرحة ومنها الأليمة والمحزنة، نحتفل بالأولى لنشعر بالفخر بها، ولكى تعطينا الأمل فى المستقبل والثقة فى النفس، وأما الثانية، رغم آلامها وأحزانها لكنها مهمة جدا فى مسيرة الحياة، لأنها تُعلمنا الدروس التى يجب أن نتعظ منها، وبالتالى تحمينا من الوقوع فى الخطأ مرتين.
فالتاريخ هو ذاكرة الفرد والأمة، ومنه تتكون شخصية الإنسان، وشخصية وملامح المجتمع، هكذا يقول الفيلسوف جان بول سارتر (je suis mon passé) أو «أنا الماضى»، وهذا يعنى أن تجارب الماضى هى التى تشكل الفرد والمجتمع، ولهذا تحافظ الدول المتقدمة على هذه الذاكرة، وتعتبرها جزءا من أمنها القومى.
كما أن للتاريخ فوائد أخرى، فعلى سبيل المثال، المتاحف والمبانى القديمة ليس الغرض منها فقط العرض السياحى، ولكن الأهم هو دراستها وتحليلها علميا، عندما فسر شامبليون مرسوما ملكيا، صدر فى 196 ق.م، مكتوب باللغة الهيروغليفية على حجر رشيد، كشف عن تاريخ مهم فى الحضارة المصرية، كما أنه أحيا ثلاث لغات ميتة: الهيروغليفية والديموطقية والإغريقية، وهذا الاكتشاف لا يقل عبقرية عن نظرية النسبية لأينشتاين التى استطاعت العودة بالزمن للماضى!
وكذلك المومياوات ليست فقط للفرجة، ولكن أيضا لمحاولة تفسير ظاهرة التحنيط التى لم نتوصل إلى سرها حتى الآن؛ وبناء الأهرامات ما زال لغزا وتحديا للهندسة المعمارية! ولعل فى هذا درس لدعاة الظلام والجهل الذين يطالبون بهدم الآثار لأنها رموز للوثنية، بل هم دعاة للجاهلية!
يبدأ تاريخ مصر الحديث بقيام ثورة الشعب المصرى 1805 ضد الوالى العثمانى خورشيد باشا، ونتج عنها تولية محمد على باشا، ومنذ هذا التاريخ وما زالت تشهد مصر أحداثا جساما، فيها انتصارات وهزائم، وتحالفات ومؤامرات، وزعامات مخلصة وأخرى خائنة.. إلخ.
لقب محمد على بمؤسس مصر الحديثة بسبب النهضة الكبيرة التى أحدثها فى الصناعة والزراعة والرى والتعليم والإدارة، لقد عمل على تأسيس دولة عصرية، من أهم مقوماتها بناء جيش قوى، قام بعدة حملات خارجية، وحقق انتصارات كبيرة، ولكن تحالفت ضده القوى العظمى، وخضع للسلطان العثمانى الذى ثبته واليا على حكم مصر والسودان.
وبعد انتهاء ولايته، بدأت مصر تقع فى الأزمات، وذلك لضعف حكام الأسرة العلوية بالنسبة له، وتولى فى 1848 ــ بعد ابنه إبراهيم باشا (حكم 4 أشهر فقط) ــ حفيده عباس حلمى الأول الذى تراجعت فى عهده حركة النهضة، واعتبر أسوأ المستبدين الشرقيين، وكان مصيره القتل، وتولى بعده سعيد باشا 1854 الذى أعطى دليسيبس امتيازا لحفر قناة السويس، ثم جاء الخديو إسماعيل 1863، وكان متأثرا بالحضارة الفرنسية، فنجح فى نقل ملامحها المعمارية والفنية إلى مصر، ولقب بالمؤسس الثانى لمصر الحديثة، ولكن كانت فترته بداية انهيار مصر وضعفها، تفاقمت أزمة الديون فى عهده إلى أن صدر فى 1879 فرمان يقضى بخلعه وتولية ابنه الخديو توفيق.
ومن أهم الأحداث فى عهد توفيق اندلاع الثورة العرابية 1881 (حركة الضباط المصريين ضد الهيمنة العثمانية)، كما شهد عهده الاحتلال البريطانى، ومرت مصر بحركات متعددة لمقاومة الاحتلال، وبرزت العديد من الشخصيات فى هذا المجال مثل مصطفى كامل ومحمد فريد، ومن الأحداث التى هيجت الشعب ضد الاحتلال حادثة دنشواى 1906 فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى.
وفى عهد السلطان فؤاد الأول، قامت ثورة 1919 عندما نفت بريطانيا سعد زغلول، فأعادت الثورة الزعيم للوطن، واستمر فى كفاحه، وعقد عدة مفاوضات مع بريطانيا للاستقلال، ولكن معظمها باءت بالفشل، إلى أن أصدرت بريطانيا تصريح 28 فبراير 1922 الذى اعترفت فيه بسيادة مصر مع بعض التحفظات، وأدى هذا التصريح لإعلان قيام المملكة المصرية، فعين فؤاد الأول نفسه ملكا، وصدر فى عهده دستور 1923.
وبعد وفاة سعد زغلول 1927، تولى رئاسة حزب الوفد مصطفى النحاس الذى عقد مع بريطانيا معاهدة 1936 (فى عهد فاروق الأول وهو تحت مجلس وصاية)، فكان لها فوائد كثيرة: أنهت الاحتلال البريطانى عسكريا، وضمت مصر إلى عُصبة الأمم المتحدة، ونظرا لانتهاكات بريطانيا، أعلن النحاس باشا 1951 إلغاء معاهدة 1936، فبدأ النضال المسلح، وهاجم الفدائيون المصريون المعسكرات البريطانية، فحاصرت القوات البريطانية مبنى محافظة الإسماعيلية، ورفضت الشرطة المصرية الاستسلام، فى 25 يناير 1952، اليوم الذى أصبح عيدا للشرطة، وبعد يوم واحد حدث حريق القاهرة، وكانت هذه بداية سقوط النظام الملكى فى مصر.
***
وتبدأ حُقبة جديدة فى تاريخ مصر، يقوم فيها الضباط الأحرار بحركة 23 يوليو 1952، بزعامة اللواء محمد نجيب، وبقيادة البكباشى (مقدم) جمال عبدالناصر، وكان أول قرارات الحركة إصدار قانون الإصلاح الزراعى الأول فى سبتمبر 1952، وإلغاء الملكية والأحزاب 1953، وإعلان مصر جمهورية، وتولى محمد نجيب رئاستها، وعُزل 1954، ومع هذا التاريخ تنتهى كلية سيطرة رجال السياسة من أمثال سعد زغلول ومصطفى كامل ومصطفى النحاس ومكرم عبيد والدكتور محمد حسين هيكل، وتُلغى الحياة السياسية بشكلها التقليدى (أحزاب ومعارضة)، وتبدأ حُقبة جديدة يسيطر فيها الجيش بزعامة عبدالناصر على مقاليد الحكم.
تتحول الحركة المباركة إلى ثورة، فتُحدث تغيرات جذرية فى بنية المجتمع، تسود فيها الطبقة المتوسطة بأفكارها وإبداعاتها، وتُعطى الأولوية للفقراء وللطبقات الكادحة، وأهم إنجازاتها: جلاء القوات البريطانية وتأميم قناة السويس 1956، ومجانية التعليم، وبناء السد العالى 1960، كما من أهم انتكساتها: تأميم الحياة السياسية، وعدم الوفاء بالبند السادس من مبادئ الثورة، وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة، وانفصال سوريا عن الوحدة 1961، واشتراك الجيش المصرى فى حرب اليمن، مما أثر سلبا على اقتصاد مصر، وعلى قوة جيشها، واعتبر أحد أسباب هزيمة 1967.
اعترف النظام الناصرى بأخطائه، كان أهمها البنية السياسية، وغياب الحريات، حاولوا استدراك هذه الأخطاء ببيان 30 مارس 1968، الذى جاء لعلاج الفشل السياسى لمظاهرات العمال والطلاب فى فبراير 1968 مطالبين بالحريات، وبالإصلاح السياسى، وبإعادة محاكمة المتسببين فى الهزيمة العسكرية، ولكن النظام لجأ من جديد إلى الحل الأمنى!، ففى العام التالى اعتُدِى على السلطة القضائية بما عرف بمذبحة القضاء، وأعطى النظام الأولوية لمعركة التحرير، فكانت حرب الاستنزاف التى أنهكت العدو، وانتهى عهد عبدالناصر بقبوله لمبادرة روجرز للسلام، ثم بوفاته فى 28 سبتمبر 1970، فور انتهاء مؤتمر القمة العربى الذى حدثت فيه المصالحة بين ياسر عرفات والملك حسين.
تولى الحكم من بعده نائبه أنور السادات الذى أعلن عودة الحريات وإغلاق المعتقلات فى مايو 1971، واستبشر الشعب بهذا النهج، وأهم إنجازاته انتصار أكتوبر 1973، وإعادة فتح قناة السويس، واتفاقية السلام 1979 التى فتحت النار عليه، فانقسمت القوى السياسية حولها، واعتبرها البعض استسلاما، لم يتحمل السادات هذا الجدل، فقام باعتقال المعارضين بكل أطيافهم فى سبتمبر 1981، وأُغتيل فى يوم الانتصار 6 أكتوبر من نفس العام!.
تولى الحكم بعده نائبه حسنى مبارك، وكانت إنجازاته رفع العلم المصرى 1989 على طابا، بعد لجوء مصر وإسرائيل للتحكيم الدولى، كما شهد عهده تطورا نسبيا فى البنية التحتية، إلا أن فى عهده تدهورت الأوضاع الاقتصادية، وخدمات التعليم والصحة، والسياسة الخارجية مع إفريقيا، كما أن حالة الطوارئ كانت مفروضة دائما، واستمر هذا حتى قامت ثورة 25 يناير، وسقط نظامه فى يوم احتفالات عيد الشرطة!
***
نلاحظ مما سبق أن الحقبة الملكية كان فيها رجال وزعماء محترفون للسياسة، ولكن الاحتلال العثمانى والإنجليزى وفساد بعض الأحزاب كانوا دائما يقفون حجر عثرة فى تحقيق أهداف الشعب المصرى، فكان الحُكام تأتى قرارات تعيينهم وعزلهم من الباب العالى بإسطنبول أو بأوامر من الإنجليز، ولكن ثورة 23 يوليو حررت الإرادة المصرية من أى تبعية خارجية، إلا أن أكبر عيوبها ــ كما سبق القول ــ غياب الحريات، وعدم تطبيق نظام ديمقراطى يعتمد على الفصل بين السلطات الثلاث، وعدم تداول السلطة، وهذا شوه صورة الضباط الأحرار، وأنقص كثيرا من إنجازاتهم التى ضاعت هباء لعدم وجود مؤسسات تحميها.
ومن الذكريات التى لا تُنسى فى تاريخ الجمهوريات الثلاث المصرية، والتى يجب أن نتعلم منها، أن كل واحدة منهم انتهت بأزمة مع الحريات، لم يستطع رئيسها إيجاد حل سياسى لها، فمظاهرات 1968، ومذبحة القضاء 1969 لم تجدا سوى رد واحد: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»!، والاحتقان السياسى واعتقالات السادات لكل المعارضين فى سبتمبر 1981 انتهت باغتياله فى يوم انتصاره، وبنفس الطريقة المأساوية، سقط مبارك، فقد أصم أذنيه، واستهزأ بالمعارضة بقوله: «خليهم يتسلوا»، فلم تستطع الأجهزة الأمنية العديدة التى اعتمد عليها، وعلى رأسها جهاز الشرطة، من منع سقوطه فى يوم عيدها، ثم محاكمته وإيداعه السجن!، وفى هذا الشأن كتبنا مقالا فى جريدة الشروق بعنوان: «القوة وحدها لا تصنع سلاما» (11/3/2018).
وخلاصة القول إن مصر رغم ما حققته بعد ثورة 30 يونيو من نقلات نوعية فى مجالات عديدة، من أهمها البنية التحتية، وبناء جامعات جديدة فى مدن جديدة على نظم حديثة، كما أنهت العشوائيات، وتحاول الآن فرض القانون بإنهاء المخالفات التى التهمت كثيرا من الأراضى الزراعية، وإصلاح اقتصادى تأخر لأكثر من ثلاثة عقود، إلا أنها ما زالت فى حاجة لمزيد من الإصلاح السياسى.
ولعل استكمال البرلمان بغرفتيه ــ الشيوخ والنواب مع الانتخابات الجديدة ــ تُعد فرصة لبداية مرحلة جديدة، تسمح بالحريات، ولو تدريجيا، وبتعميق مفهوم المواطنة، وتساعد على بناء أحزاب قوية، وذلك لخلق جيل جديد مُحترف للعمل السياسى.
ولا شك أن ذلك سيُساعد أيضا فى تحقيق الاستقرار والتنمية والأمن والأمان، ويفتح مجالات التعبير الرسمية الخاضعة لقوانين الدولة، حتى يمكن محاسبتها، ونفوت الفرصة على أكاذيب وسائل التواصل الاجتماعى التى تحدث عنها مرارا فخامة الرئيس، ويُعانى من ويلاتها الشعب.
كل ذلك من أجل الحفاظ على الإنجازات الكبيرة التى تمت فى العصر الحالى، وحتى لا تضيع كما ضاعت من قبل منجزات ثورة 23 يوليو.
أستاذ الأدب واللغويات بقسم اللغة الفرنسية بجامعة الملك سعود بالرياض
الاقتباس:
الحقبة الملكية كان فيها رجال وزعماء محترفون للسياسة، ولكن الاحتلال العثمانى والإنجليزى وفساد بعض الأحزاب كانوا دائما يقفون حجر عثرة فى تحقيق أهداف الشعب المصرى، فكان الحُكام تأتى قرارات تعيينهم وعزلهم من الباب العالى بإسطنبول أو بأوامر من الإنجليز، ولكن ثورة 23 يوليو حررت الإرادة المصرية من أى تبعية خارجية.

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات