كل شىء ليس على ما يرام - جلال أمين - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كل شىء ليس على ما يرام

نشر فى : السبت 2 يناير 2010 - 9:43 ص | آخر تحديث : السبت 2 يناير 2010 - 9:43 ص

 كنت فى إنجلترا خلال العام الأخير من حياة أمى، وقد توفيت وأنا بعيد عنها، فلم أعلم بخبر وفاتها إلا من خطاب أرسله لى أخى حسين من مصر.

كنت شديد القلق عليها خلال ذلك العام الأخير، إذ تركتها وهى مقتولة الصحة. ومن ثم كنت ألح عليها فى خطاباتى أن تكتب إلى ولو خطابات قصيرة تطمئننى فيها على صحتها. كانت تكتب لى من حين لآخر بخط مرتعش، ولكنها كانت تختم خطاباتها دائما بعبارة. «كل شىء على ما يرام».

تبين لى بالطبع عندما جاءنى خبر وفاتها بأنه «كل شىء لم يكن على ما يرام». ولكن أمى لم تكن تقصد إخفاء أشياء مهمة عنى، بل كانت فقط غير قادرة، وسط التفاصيل الصغيرة للأحداث اليومية أن ترى المغزى الأعمق لما يجرى، كان كل شىء يبدو لها وكأنه يسير سيرا عاديا وطبيعيا، دون أن يكون بقدرتها أن ترى المآل الطبيعى لهذه التغيرات الصغيرة. تدهور بسيط فى الصحة، أو تحسن بسيط يعقبه تدهور شديد، وينتهى الأمر نهاية طبيعية بالموت. أو شجارات صغيرة بين أخ وزوجته، أو تحسن بسيط فى علاقتها يعقبه شجار عنيف، وينتهى الأمر «نهاية طبيعية» بالطلاق.

هكذا، فيما أظن، تمر بنا الأيام، ولا يبدو لنا من التغيرات الصغيرة أنها لابد أن تنتهى بنهايات مهمة، فنظن أن كل شىء على ما يرام، مع أن كل شىء ليس على ما يرام بالمرة.

عندما استعرضت فى ذهنى، أهم ما أذكره من أحداث عام 2009، وجدت أنه ملىء بالمعارك الصغيرة، ولكنها فى الحقيقة، بعد قليل من التأكد، كبيرة المغزى. لا يتضح لنا المغزى الحقيقى لمجرد أن العام قد بلغ نهايته «إذا لا يحدث فى نهاية العام إلا احتفالات رأس السنة» ولكن لابد أن يتضح المغزى الحقيقى بالتدريج فى العام التالى أو الذى يليه، أو حتى بعد أعوام كثيرة. ومع ذلك من المفيد أن نحاول استخلاص هذا المغزى، حتى ونحن قريبو العهد بالحديث حتى نقلل من حجم الصدقة أو المفاجأة.

فى عام 2009 حدثت «معركة اليونسكو» أى ترشيح وزير الثقافة المصرى لرئاسة هذه المنظمة الدولية، وتحقيقه نتائج جديدة فى البداية، ولكنها انتهت المعركة لغير صالحه، بل لصالح مرشحة دولة صغيرة هى بلغاريا، رغم كل ما بذلته الدولة المصرية من جهود لإنجاح مرشحها. قد يبدو الأمر بسيطا لأول وهلة، فالمنظمات الدولية كثيرة، ومصير دولة لا يتوقف على النجاح أو الفشل فى الفوز برئاسة واحدة منها. ولكن قليلا من التفكير يجعلنا نرى أن هذه النتيجة وثيقة الصلة فى الحقيقة بتدهور مركز مصر السياسى والثقافة فى العالم. لقد مر بمصر وقت كانت فيه مكالمة تليفونية واحدة من الرئيس المصرى لرئيس آخر أو ملك تكفى لتحويل نتيجة تصويت كهذا لصالح مصر. ولكن ليس الآن، وذلك لأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها هنا.

ما إن انتهت معركة اليونسكو حتى جاءت «معركة كرة القدم».

وقد بدأ الأمر هنا أيضا بفوز مصر على الجزائر فى مباراة جرت بالقاهرة، وأثارت حماس المصريين. ولكن الأمر انتهى بمباراة فى الخرطوم، خسرت فيها مصر، وأشعل هذا معركة حقيقية بين المصريين والجزائريين.

لم يكن أداء الدولة المصرية فى هذه المعركة أداء مشرفا، وكان هذا مؤشرا آخر على تدهور أحوال الدولة المصرية. إذ لم يكن من المتصور منذ ثلاثين أو أربعين عاما، أن تتصرف الدولة المصرية إزاء هذه المشكلة وكأنها دولة صغيرة إلى هذا الحد. ولكن هذا هو ما حدث، فإذا بمغزى مباريات كرة القدم يدعم ما استخلصناه من مغزى معركة اليونسكو.

شهد عام 2009 أيضا مباراة بين نجل الرئيس مبارك والدكتور محمد البرادعى لم تتخذ شكل مباراة حقيقية ولكنها كانت كذلك فى حقيقة الأمر. فمنذ عدة سنوات ومحاولة الترويج لحلول نجل الرئيس محل والده فى منصب الرئاسة، دائرة على قدم وساق، وكأن المقصود أن يتسرب إلى المصريين شيئا فشيئا، الشعور بأنه ليس هنا بديل لنجل الرئيس، فإذا تخلى الرئيس عن الرئاسة لم يعد هناك إلا ابنه للحلول محله. والمدهش أن اعتقادا كهذا مع كل غرابته، يمكن أن يترسخ شيئا فشيئا فى أذهان المصريين، بمجرد تكراره والإلحاح عليه، يوما بعد يوم، بمختلف وسائل الإعلام، حتى بدأ يخيل إلى المصريين بالفعل، أن الرئيس مبارك هو الوحيد بين المصريين الذى له أولاد بلغوا سنا يمكن أن يصبحوا معها رؤساء للجمهورية إلى أن خطر لبعض الناس فجأة أن هناك شخصا آخر، مصريا أيضا وحائزا على جائزة نوبل، وليس هناك ما يشينه، ويمكن ترشيحه للرئاسة بدلا من نجل الرئيس.

فوجئنا باسم د. محمد البرادعى يطرح بقوة كمرشح بديل، ثم فوجئنا أكثر بقبول د. البرادعى لهذا الترشيح، وإن كان قد ذكر شروطا بديهة يجب أن تتحقق قبل أن يرشح نفسه بالفعل. كل هذا كان مفاجأة ولكن المفاجأة الكبرى كانت ردود الفعل من جانب رجال النظام إزاء مجرد تفكير د. البرادعى فى ترشيح نفسه. إذ هب هؤلاء مذعورين يصيحون بمختلف أنواع السب والقذف، وقد اعتراهم خوف عظيم من أن يضيع فجأة من أيديهم كل ما عملوا من أجله فى السنوات الماضية، لمجرد دخول رجل كالبرادعى ساحة المعركة.

قد تبدو هذه المعركة صغيرة أيضا، ولكنها بدورها عظيمة الدلالة، فقد بينت هى الأخرى درجة الضعف الذى أصاب الدولة المصرية، حتى أصبحت تخشى مجرد دخول أكثر من شخص واحد للمنافسة على منصب الرئيس.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات