نحو نهاية الـ18 يوما الشهيرة ومع عدم ظهور علامات بأن مبارك قد فهم ما فهمه بن على مبكرا تحول الهتاف فى ميدان التحرير من «الشعب يريد إسقاط النظام» إلى «الشعب يريد إسقاط الرئيس» فيما بدا حينها تصعيدا للمطلب الأساس. وحين أجبر مبارك على التنحى فى 11 فبراير كانت الفرحة عارمة والشعور بالانتصار مطلقا. تكفلت ثلاثون عاما من حكم مبارك بمحو الفروق بين شخص الرئيس وبين مؤسسات الدولة ولم يبدأ الفرق فى الاتضاح بين الشخص والنظام إلا مع لحظة سقوط الدكتاتور. لكن لم يمض وقت طويل قبل أن يدرك الثوار أن ما سقط كان رأس النظام وأن جسمه ما زال حيا يرزق ــ وبالثوار هنا أعنى كل من انتمى إلى ثورة يناير وآمن بها.
على الجانب الآخر لم تتمتع قوى الثورة المضادة والتى تعيش حاليا أزهى لحظات انتعاشها بذات الإدراك، إذ امتلكت ولا تزال قناعة راسخة بأن حفنة من الشباب هم رأس الثورة وأن القضاء على الثورة يتلخص فى القضاء على أفراد تلك الحفنة. يتناقض الخطاب المعلن الذى يصف هؤلاء الشباب بأنهم بلا تأثير وأنهم ملفوظون من الجماهير مع التصرفات التى تستهدفهم بالتشويه والتنكيل الذى وصل مع الحكم الحالى إلى مستويات غير مسبوقة من نشر تسريبات المكالمات مع التنصل من المسئولية عن تلك الجريمة الخطيرة إلى الاعتقالات الواسعة إلى القتل ــ تلك الانتهاكات الخطيرة التى وصلت ذروتها فى 25 يناير الماضى. كما تم استهداف والتنكيل بشكل خاص بمن اعتبرتهم أجهزة الحكم الحالى قيادات مشهورة مثل علاء عبدالفتاح وأحمد ماهر، ولا يخلو الأمر بالطبع من زهوة ما يعتقدون أنه ذبح للقطة وأداة تخويف مفادها أننا نستطيع أن نفعل ذلك مع النشطاء الأكثر شهرة فما بالك بما يمكن أن نفعله بمن لا يعرفهم أحد.
•••
اتسع نطاق الاستهداف الحالى ليشمل كل من له رأى مخالف وبالذات من كانت مهنتهم هى التعبير عن الرأى ونقل الحقائق وبلورة الأفكار من مصورين وصحفيين وكتاب وأكاديميين ممن تحتم عليهم مهنتهم البحث والتقصى ويحتم عليهم احترامهم لذواتهم التصريح بما يعتقدونه صوابا. وضربت السلطة فى سبيل ذلك عرض الحائط بالاعتبارات القانونية وبنصوص الدستور الذى تم تسويقه على أنه سيكون فاتحة التبات والنبات فيما يخص الحرية والكرامة الإنسانية وأيضا المخاطرة بسمعة البلاد ووضعها الدولى خاصة مع التنكيل بصحفيين دوليين وأكاديميين ممن لهم وضع دولى متميز كعماد شاهين وعمرو حمزاوى.
•••
فى معركتها الشرسة مع ما تعتقد أنه رأس الثورة لا تلقى التوليفة الحاكمة بالا إلى الثورة ذاتها، ويزداد بطشها ونشوتها على خلفية الصيحات الشعبية المنادية بالضرب والفرم والواقعة تحت تأثير فرحة الخلاص من كابوس حكم الإخوان والخوف من الهجمات الإرهابية المتزايدة وتحت تأثير آلة البروباجندا الجهنمية ولكن كما قال وائل جمال فى مقاله «للبروباجاندا حدود» المنشور بـ«الشروق» فى 26 ديسمبر «للبروباجاندا حدود فلا يمكنك أن تخدع شخصا فيما يأكل ويشرب وفيما يحصل عليه آخر الشهر وما إذا كان يكفيه». ربما حينها سيتضح أن هؤلاء المنكل بهم لم يكونوا رأس الثورة ولا قادتها لكن فقط كانوا أفرادا تصدوا لبلورة المطالب والتعبير عن أشياء موجودة بالفعل. هم لم يستحثوا من عدم غضب الناس من الظلم وإنما شعروا به وترجموه وعبروا عنه ودفعوا أثمانا باهظة فى سبيل ذلك. محاولة إسكات هؤلاء لن يقضى على الثورة وبإبعادهم سيجد الحكام والمجتمع أيضا أنفسهم فى مواجهة أشكال من الاحتجاج وربما من الفوضى سيكون من الصعب فهمها أو التفاهم معها ناهيك عن السيطرة عليها. السلطة الآن تخط طريقا لن يفضى إلا إلى مزيد من الفوضى وهى تحضر عفريتا لن تستطيع أن تصرفه.