دائما ما يرتبط النصف الثانى من شهر يناير بذكرى محببة إلى قلبى وتتكرر كل سنة وهى معرض القاهرة الدولى للكتاب. ومع وجودنا فى رحاب الكتب لمدة أسبوعين فقد أحببت أن أشارك القراء بعض الملحوظات والنقاط المتعلقة بالكتب والثقافة والعوامل المؤثرة فيهما فى عصرنا هذا....
لنبدأ ببعض الملاحظات العامة المتعلقة بالقراءة ومعرض الكتاب والقراءة:
• حسبما رأيت بنفسى فقد كان عدد الزائرين كبيرا. هذا شىء جميل لأنه يدل على إقبال الناس على المعرض، لكن دعنا نحلل الظاهرة بدقة. هل معنى ذلك أن الناس تقبل على القراءة؟ أم جاءوا من باب النزهة خاصة وأن المعرض بدأ مع بداية إجازة نصف العام؟ للإجابة عن هذا السؤال نحتاج معرفة عدد الكتب المباعة وهذا شىء فى منتهى الصعوبة.
• أعتقد أن هناك الكثير من الكتب المنشورة من كتاب جدد. هذا فى حد ذاته شىء جيد لأنه يعنى أن الكثيرين عندهم شىء يقولونه وبغض النظر عن هذا الشىء ففعل الكتابة مثله مثل فعل القراءة شىء جيد، لكنه أيضا يضع القارئ أمام معضلة: كيف يختار خاصة أن الكتب أصبحت غالية الثمن؟ وكيف يفرق بين الغث والسمين؟ هذا السؤال الأخير يقودنا إلى النقطة التالية.
• هناك بعض الكتب التى يراها الكثير من المثقفين ضعيفة أو مبتذلة أو معدومة القيمة لكن فى نفس الوقت يباع منها الألوف المؤلفة من النسخ وتعتبر من «البيست سيلر»، هل هذا أمر جيد؟ هناك وجهة نظر تقول إن هذا الأمر سيئ لأنه يعود الشخص على الضعيف من الكتابة مما يفقده حاسة التذوق الأدبى ولا ينمى ثقافته ويضيع وقته فيما لا يفيد. هناك وجهة نظر أخرى تقول إنه على الأقل هذه النوعية من الكتابات تجعل من لا يقرأ يبدأ فى القراءة. وجهة النظر هذه تأخذنا إلى النقطة التالية.
• إذا سلمنا بأن الكتابات البسيطة ولن نقول الضعيفة ستأخذ بيد الشخص الذى لا يقرأ وتدخله عالم القراءة، كيف نضمن أنه سيرتقى بقراءاته فى هذا العالم؟ قد يظل طوال عمره يقرأ الكتابات المبتذلة. هنا همسة فى أذن الناشرين فى بلادنا: كما أنه من الناحية الاقتصادية يجب وجود بعض الكتب من أجل «البيست سيلر» ومن أجل الثقافة الرفيعة هناك كتب عميقة ودسمة فيجب أن تكون هناك بعض الكتب كحلقة وصل، وهذا فى حد ذاته يحتاج نوع معين من الكتاب يمكنه الكتابة بطريقة بسيطة فى موضوعات عميقة ومهمة.
• هناك فارق بين من يقرأ ليستمتع ومن يقرأ ليتعلم. السواد الأعظم من الناس يقرأ ليستمتع فقط، وهذا رأى شخصى يحتمل الصواب والخطأ، لكن إقبال الكثير من الشباب على الروايات البوليسية والرعب دليل على ذلك.
نأتى الآن لتكنولوجيا القراءة....
الكتاب الورقى هو من أقدم التكنولوجيات التى عرفناها فى القرون الماضية، وهى تكنولوجيا سهلة الاستخدام ولا تحتاج شرحا. لكن حدثت عدة تطورات فى السنوات الماضية أصبحت تهدد عرش الكتاب الورقى.
أولا: الجيل الجديد أصبح تركيزه أقل بكثير من الأجيال السابقة نظرا لإدمانه مواقع التواصل الاجتماعى التى تعتمد على جمل قصيرة وقليلة. قلة التركيز معناها عدم القدرة على الجلوس لمدة طويلة فى عمل واحد مثل القراءة الطويلة المتعمقة مثلا.
ثانيا: من يدمنون الكتاب الورقى مثل كاتب هذه السطور سيواجهون بعد مدة مشكلة فى المساحة فى البيت لكل هذه الكتب.
ثالثا: من يقوم بالبحث العلمى ويحب أن يجمع معلومة من عدة كتب ويضع ملاحظاته سيحتاج إلى بذل مجهود كبير فى عمليات النقل والكتابة بدلا من الجزء العقلى والفكرى فى البحث.
لكل هذه الأسباب وغيرها بدأ ظهور ما يعرف بالكتاب الالكترونى خاصة مع التقدم فى الهواتف الذكية والتابلت واللابتوب. هذه الأجهزة الالكترونية وبمساعدة برمجيات ومنصات الكتب الالكترونية تستطيع تخزين آلاف الكتب وتستطيع انت كقارئ نقل عدة سطور من كتاب إلى برنامج كتابة بضغطة زر. ثم تطور الأمر أكثر وأصبح الكتاب تفاعليا أى يمكنه إظهار فيديو والدخول على الانترنت مما سهل على الجيل الجديد قليل التركيز لأنه يمكن أن يقرأ قليلا ثم يشاهد فيديو متعلقا بالكتاب ثم يكتب عدة ملاحظات إلخ، هذا التنوع فى الأنشطة يقلل من الملل الذى يشعر به الشخص قليل التركيز، لكن ظهرت مشكلة أخرى.
القراءة من شاشة التابلت أو اللابتوب لمدد طويلة مرهقة جدا للعين لأن تلك الشاشات تعتمد على إظهار الصورة تلو الأخرى بسرعة كبيرة لا تلاحظها أنت لكن العين تلتقطها ويؤدى ذلك إلى مشاكل فى النظر والتركيز (مرة أخرى). لذلك ظهرت أنواع جديدة من الشاشات من أجل القراءة وتستخدم ما يسمى بالحبر الالكترونى أو (e-ink)، وهى نوع معين من الشاشات وتضع صورة واحدة لا تغيرها حتى يتم ارسال تيار كهربى معين عندما يريد القارئ تغيير الصفحة. هذا الجيل من الشاشات أصبح يستخدم فى الأجهزة المتخصصة فى القراءة الإلكترونية مثل (amazon kindle). هذه الشاشات مريحة للعين وتستهلك كهرباء أقل بكثير من الشاشات العادية وبالتالى لا تحتاج إلى الشحن إلا كل عدة أسابيع.
طبعا هناك من لا يزال يحب الكتاب الورقى لكن التطور التكنولوجى لا يرحم. الكتاب الورقى لن ينتهى لكن الكتب الالكترونية ستتخطى فى مبيعاتها الكتب الورقية خاصة عند الجيل الجديد والأجيال القادمة....
معارض الكتب يجب أن تأخذ هذا التطور التكنولوجى فى الاعتبار. إذا حاولنا استشراف مستقبل معارض الكتب فقد نرى شاشات متعددة فى أجنحة دور النشر بالمعرض تعرض الكتب وتسمح لك بتصفحه وإذا أعجبك كتاب تحصل عليه على جهازك بضغطة زر ويتم خصم ثمنه من كارتك الائتمانى أو ما شابه، بل ويمكن عمل حفلات التوقيع لأن الشاشات الحديثة حتى نوع (e-ink) تسمح بالكتابة عليها. يمكن أيضا عقد الندوات باستخدام تقنيات الواقع المعزز إذا ما كان الكاتب لا يستطيع الحضور. هل سنعيش لنرى معارض الكتاب فى الميتا فيرس؟ التكنولوجيا تقول نعم لكن قلبى يرفض ذلك لأنه لا شىء يعادل التواصل الإنسانى على الطبيعة وليس عبر الشاشات.