أطلق الراحل الكبير أحمد بهاء الدين تعبير الانفتاح «السداح مداح» فى بداية فترة الانفتاح الاقتصادى فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى وكان يقصد بذلك غلبة «الانفتاح الاستهلاكى» على «الانفتاح الإنتاجى». وأستطيع اليوم أن أقول دون مبالغة كبيرة أننا نعيش فى إطار اقتصاد «سداح مداح» يخلو من الضوابط وقواعد السلوك الاقتصادى الرشيد.
وقد ارتفعت فى الآونة الأخيرة أصوات المستوردين والتجار والمضاربين فى سوق العملة ضد أى محاولة لوضع ضوابط للنشاط الاقتصادى فى بلد نام يعانى من نقص فادح فى حصيلة النقد الأجنبى. وأخذت حدة تلك الاحتجاجات تأخذ أشكالا مختلفة مثل بيانات غاضبة من اتحاد الغرف التجارية، بل وصلت فى بعض الأحيان إلى حد التظاهر وتقديم البلاغات إلى النائب العام.
وتعود كل هذه الضجة إلى مجموعة القرارات التى صدرت بالحد من الاستيراد لبعض السلع غير أساسية ورفع الرسوم الجمركية على عدد أكبر من السلع المستوردة، على الرغم من أن تلك الإجراءات معمول بها فى عدد كبير من البلدان الآخذة فى النمو، لفترات محدودة من الزمن، حتى يشتد عودها ويتوافر لديها النقد الأجنبى اللازم لرفع القيود عن الاستيراد.
***
واتسمت تلك الاحتجاجات والبيانات بتهويل حجم المشكلة وتداعياتها الاقتصادية، إذ ذكرت شعبة المستوردين للأدوات المنزلية بالغرفة التجارية بالقاهرة: «إن الآلاف من المستوردين سيجتمعون فى مقر الاتحاد العام للغرف التجارية اعتراضا على القرارات ٩٩١و ٩٩٢و ٤٣ التى أصدرها وزير الصناعة والتجارة بتقييد وحظر الاستيراد من الخارج». وأوضحت الشعبة فى بيان لها أن هذه القرارات سوف تضر أكثر من ٨٥٠ ألف مستورد و٤ ملايين تاجر، جميعهم يرفضون قرارات وزارة الصناعة والتجارة، وأن هذه القرارات سوف تؤدى إلى تشريد نحو ٢٠ مليون عامل يعملون بالمحلات وشركات الاستيراد. وكما هو واضح من البيان فإن هناك تهويلا ومبالغات مقصودة حول أعداد المتضررين من هذه الإجراءات وذلك لممارسة الضغوط على المسئولين لإلغاء تلك القرارات.
وإذا كان عدد العمال المشردين نتيجة تلك القرارات يصل إلى نحو ٢٠ مليون (يعملون فقط فى قطاع الاستيراد) فإن بيانات البنك الدولى لعام ٢٠١٣ تشير إلى أن قوة العمل الإجمالية فى مصر تصل إلى ٢٧ مليونا (فوق سن ١٥) بمن فيهم المتعطلون. ومعنى ذلك أن قوة العمل فى بقية قطاعات الاقتصاد القومى: الزراعة، الصناعة، التجارة الداخلية، النقل والمواصلات، البناء والتشييد، الخدمات الحكومية، وغيرها من الأنشطة الاقتصادية لا تزيد على ٧ ملايين عامل!
وقد حاول بيان الغرفة التجارية إظهار مصالح التجار والمستوردين وكأنها «المصلحة الاقتصادية العليا للبلاد»، إذ لم يحاول هؤلاء طرح الجانب الآخر من الصورة التى تتعلق بتشجيع بدائل الإنتاج المحلى بما يساعد على إعادة تشغيل المصانع المتوقفة وتوفير فرص عمالة جديدة مرتبطة بنمو الصناعة الوطنية. حتى فى حالة الصناعات التى تحتاج إلى مستلزمات إنتاج مستوردة يكون توفير النقد الأجنبى اللازم لهذا الغرض أكثر إلحاحا من استيراد السلع الاستهلاكية غير الضرورية، حتى لو كان البديل المحلى أقل جودة. ذلك لأن البلدان النامية فى آسيا وأمريكا اللاتينية التى قطعت شوطا فى مضمار التنمية فرضت حظرا على استيراد بعض السلع الغير ضرورية، وعاشت الهند، على سبيل المثال، فترة طويلة لا تستهلك سوى أنواع رديئة من السجائر، ونموذج لسيارة واحدة محلية الصنع. بل إن اليابان فى مرحلة إعادة البناء غداة الحرب العالمية الثانية فرضت بعض القيود على الاستيراد قبل أن تصبح قوة صناعية ضاربة.
وقد لخص أحمد شيحة، رئيس شعبة المستوردين بالغرفة التجارية، نتيجة تلك القرارات على النحو التالى: أن«المصانع المصرية ستوفر السلع بجودة أقل بعد القضاء على المستوردين، وسيضطر المواطن المصرى إلى شراء السلع الرديئة بأسعار مرتفعة لعدم وجود منافسة».
ويتناغم هذا الموقف مع موقف تجار العملة والمضاربين فى أسواق العملات الأجنبية حيث إن الطلب الرئيسى على العملة فى السوق السوداء تغذيه طلبات المستوردين الذين يستوردون السلع غير الضرورية والتى تستنفد جانبا مهما من موارد النقد الأجنبى المتاحة للاقتصاد المصرى.
***
ومن الواضح أن هذا الوضع يعكس صراع خفى بين الصناع والتجار، ففى مقابل تصريحات أركان الاتحاد العام للغرفة التجارية جاءت تصريحات المسئولين فى اتحاد الصناعات مؤيدة لإجراءات ترشيد الواردات لأن إطلاق عملية الاستيراد دون ضوابط يؤدى فى تقديرهم إلى تدمير الصناعات المصرية نتيجة استنزاف جانب كبير من النقد الأجنبى فى تمويل السلع غير الضرورية أو السلع القادمة من جنوب شرق آسيا بمواصفات رديئة ولكن بأسعار رخيصة.
ويعود جوهر الأزمة التى يعانى منها الاقتصاد المصرى إلى عدم وجود سياسات اقتصادية متناسقة ومتكاملة: نقدية ومالية وتجارية. والمقصود هنا ان تكون هناك سياسات متكاملة لضبط إيقاع التطورات الاقتصادية فى الأجلين القصير والمتوسط، وتلك القاعدة معمول بها فى كل النظم الرأسمالية التى تقوم على حرية السوق. فالأمر هنا لا يتعلق بعملية تخطيط مركزى أو تأشيرى بل مجرد وضع إطار لضبط المسار الاقتصادى أو ما يسمى فى الأدبيات الاقتصادية الحديثة Economics of regulation، وإلا أصبح كل شىء منفلتا بمعنى أن السياسة النقدية فى وادٍ والسياسة التجارية والمالية فى وادٍ اخر.