نشر موقع درج مقالا للكاتب خالد منصور تناول فيه كيف أن الأمريكيين من أصل إفريقى باتوا يعتبرون العنف الطريقة الوحيدة لجذب الأنظار إلى معاناتهم، وكيف أن العنصرية فى الولايات المتحدة ضد السود متجذرة فى مؤسسات الدولة لتحرص على التدنى الدائم لأوضاعهم.. نعرض منه ما يلى.
لم يكن مفاجئا أن يهدد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب المحتجين فى المدن الأمريكية بالرد عليهم بالحديد والنار، ولم يكن استثنائيا أن يقتل رجل أو امرأة غير مسلحين من السود فى الشارع على يد رجل شرطة هائج، فالشرطة الأمريكية تقتل نحو 1100 شخص سنويا فى الشوارع، أكثر من ربعهم من السود، ولن تكون هذه ربما المرة الأخيرة التى يخرج فيها آلاف من المحتجين إلى الشوارع، بل ويضرم بعضهم النار فى مبانٍ وسيارات شرطة ومنشآت عامة أخرى لأنهم يشعرون بأن الدولة والنخبة ورموزهما جزء من المشكلة لا الحل، لقد بات هذا متواترا فى المدن الأمريكية منذ مطلع القرن.
العنف طريق المقاومة
المثير للاهتمام وللأسف هو الإدراك المتزايد وسط مراقبى أحوال الأمريكيين الأفارقة فى الولايات المتحدة، أن العنف بات الطريق الوحيد المعتمد للمقاومة ورفض الموت والتهميش، أعاد مشهد قتل جورج فلويد تحت ركبة رجل شرطة وصراخه «لا أستطيع التنفس» ما حدث من قبل للرجل الأسود إريك جارنر فى نيويورك فى 2014، عندما خنقه رجل شرطة بيديه، وفى الحالتين ادعى رجال الشرطة أنهم كانوا يسعون لشل حركة مشتبه به من أجل اعتقاله، وفى الحالتين كان المشتبه به غير مسلح، وكانت الشبهات تتعلق بجنح سخيفة من قبيل بيع سجائر بلا ترخيص، وكان هناك عدد كبير من رجال الشرطة متحلقين حول القاتل وهو يزهق أنفاس الضحية، بل وحاول بعضهم إبعاد المارة الذين يسعون إلى تسجيل ما يحدث.
وبسبب هذه الهواتف والانتشار السريع لمشهد قتل فلويد فى وسط مدينة مينيابوليس، اضطرت المدينة لفصل رجال الشرطة الأربعة فى اليوم التالى ولكن الغضب المتفاقم تحول إلى احتجاجات واسعة وعنيفة بعدما تأخر مكتب النائب العام فى الولاية يومين فى توجيه اتهامات لرجل الشرطة ديريك شوفان وزملائه الثلاثة، بل وأعلن متحدث باسم المحامى العام فى المدينة الواقعة فى ولاية مينيسوتا بعد بداية الاحتجاجات بيومين كاملين، أنهم ما زالوا يفكرون فى الأمر. وأخيرا بعد خمسة أيام من الجريمة، وجهت تهمة القتل الخطأ لشوفان وقبض عليه بينما ما زالت النيابة تدرس الشبهات المحيطة بزملائه الثلاثة.
ولم يوقف الاحتجاجات تبجح ترامب ومؤيدوه الكثيرون أنه يجب احترام ذكرى فلويد وعدم تلويثها من طريق أعمال شغب وتدمير، فقد بات قطاع أكبر وأكبر من المثقفين والناشطين السود يعتقدون أنه لولا الاحتجاج العنيف لن ينتبه إلى مأساتهم أحد، وقد يتحول غضبهم العارم إلى اكتئاب حاد يغرقه الناس عادة فى المخدرات والعنف، تجاه ذواتهم بدلا من توجيهه إلى من يعتقدون أنه السبب فى معاناتهم.
ضحايا التهميش
وبدلا من أن يشكل ترامب لجنة قومية للبحث فى أسباب مقتل وسجن أعداد هائلة من السود، فقد هدد بإرسال الحرس الوطنى المسلح والرد بالرصاص على الاحتجاجات، هذا هو موقف أهل السلطة ومن هم عادة ليسوا فى موقع الاستعباد الفعلى طبقيا وماديا وصحيا بعد وقوع ضحية من المهمشين فى ظروف مرعبة. سمعنا مثل هذه التعليقات عندما تقتل الشرطة شخصا مشتبها به أو تصادف وجوده فى المكان الخطأ فى الوقت الخطأ: «ماذا كان يفعل هناك؟ هل هدد رجل الشرطة؟ هل له سجل جنائى؟ هؤلاء السود (أو المسلمون أو أهل القبائل) هم كما تعرف (ثم ابتسامة ملغزة!)؟» وإذا فشلت كل هذه الحيل الوضيعة واتضح مدى بشاعة الجريمة أو فداحتها، يقولون لك: «هو حادث فردى ودع القانون يأخذ مجراه! أم أنك تشكك فى استقلالية قضائنا وعدالته».
لا. هذه ليست حوادث فردية، على رغم أن الأفراد الضالعين فيها قد يكون لهم تاريخ جنائى وتجاوزات معروفة. مثلا تلقت إدارة الشرطة فى مدينة مينيابوليس 18 شكوى سابقة ضد الضابط شوفان، ولكنها حفظتها ولم يتخذ أى إجراء ضد رجل تورط فى حوادث إطلاق نار وعنف ضد المشتبه بهم، سوى فى حالتين فقط وضع فيهما خطاب توبيخ فى ملفه الوظيفى، أما زميله تو تاو ويظهر فى فيديوهات مقتل فلويد وهو يطلب من المارة التوقف عن التصوير ويبعدهم من المشهد، فقد وصل إلى إدارة الشرطة 6 شكاوى ضده، وفى واحدة منها وصل الأمر إلى القضاء، واضطرت إدارة الشرطة لدفع تعويض 25 ألف دولار لأحد ضحايا الضرب المبرح والاعتداء البدنى غير المبرر أثناء قيام تاو باعتقاله من دون أى سبب، هؤلاء هم الضباط الذين استجابوا لبلاغ من أحد المحال التجارية يتهم القتيل فلويد أنه حاول دفع ثمن مشترياته بنقود تبدو أحد أوراقها من فئة العشرين دولارا مزورة!
من السخيف أن يدعى ترامب أنه يكرم ذكرى فلويد عن طريق قمع الاحتجاجات، وهو نفسه من وقف على بعد خطوات من الضابط شوفان على مسرح فى حفل دعاية انتخابية لمؤيدى ترامب فى مينيابوليس، ترامب الذى يمجد العنف ويدعم الميليشيات اليمينية، هو واتباعه الكثيرون، جزء من التمدد العلنى والوقاحة المتزايدة فى أوساط جماعات التفوق العنصرى البيض.
الأفراد مسئولون لا شك عن أفعالهم ولكنها لا تتواتر وتستمر من دون تشجيع ودفاع ودعم من مؤسسات الدولة وأقسام من المجتمع ومن وسائل إعلام وأفلام وقيم وتاريخ طويل.
العداء التاريخى
يظهر لنا الغضب فى مينيابوليس ومدن أمريكية أخرى من جديد عمق العداء المتفشى للسود فى معظم مؤسسات وممارسات الولايات المتحدة ومشاعر الناس هناك. هذا التفشى المهيمن الذى أنتج وينتج الكثير من جرائم القتل والفظائع ضد السود. هذه الخصومة العميقة تنبع من قلب الاجتماع الأمريكى بل كانت عاملا مؤسسا للولايات المتحدة حيث السود لم يصبحوا أبدا من البشر!
لا يمكن فهم مأساة السود فى الولايات المتحدة من دون النظر فى عمق الشعور المعادى أو المتجاهل للسود بصورة واعية أو غير واعية، ومن دون البحث فى الهياكل والممارسات القائمة التى تقصى السود فى الولايات المتحدة من الفرص التعليمية والرعاية الصحية والإسكانية والفشل المستمر لبرامج التمييز الإيجابى. ومن دون هذا الفهم والذى قد تتبعه محاولات للتغيير الجذرى سيستمر الواقع الحالى فى إفراز الغضب والعنف، إلا لو خضع السود واستسلموا تماما لمصيرهم.
وهناك إحصاءات ودراسات كثيرة حول استهداف ممنهج من قبل الشرطة والنظام القضائى الأمريكى للسود، وإلى تمييز عميق فى المعاملة فى السياسات الصحية والسكانية والتعليمية، احتمال مقتل الرجل الأسود برصاص الشرطة أعلى بكثير من نظيره الأبيض، ووفق الإحصاءات المتاحة لهذا العقد، تقتل الشرطة الأميركية نحو 1100 شخص سنويا فى الشوارع، ويمثل السود نحو 26 فى المائة من هؤلاء القتلى، على رغم أن نسبة السود فى الولايات المتحدة لا تتعدى 13 فى المائة، ولقى معظم قتلى الشرطة الأمريكية مصرعهم بطلقات رصاص، ولكن من قتلوا منهم بسبب شل الحركة والخنق تزيد فيهم نسبة السود عن 50 فى المائة.
تحتاج إلى أن تكون عنصريا لتقلب المسألة على رأسها وتقول إن السبب فى هذا أن السود مجرمون بطبيعتهم! ولكن العنصرية لها مظاهر كثيرة ومن جذور النظرة العنصرية فى أمريكا، أن كل فرد يعد مسئولا تماما عن سلوكه طالما لم تدمغه المؤسسة الطبية بالجنون، بالتالى لا يمكن تفسير نسب السجن وإدمان المخدرات والجرائم المرتفعة بين السود بأسباب اجتماعية وتاريخية، بل لأن السود هكذا، ولأنهم هكذا فأول ما يجب أن نبحث عنه هو ماذا فعل هذا الـ”فلويد» لكى يستفز السيد «شوفان» فيلقى مصرعه خطأ.
العنصرية الأكاديمية
فى منتصف التسعينيات، كان كتاب الأمريكى من أصل هندى دانيش دى سوزا «نهاية العنصرية»، صرعة لأنه يفعل بطريقة أكاديمية وبحوث إحصائية ما يفعله العنصريون عن يقين وإيمان: السود هكذا لأنهم هكذا، هى جينات، يمكن أن تخرجهم من بريرية الغابات ولكن لا يمكن أن تخرج الوحشية من قلوبهم؟ الخ. كان كتاب دى سوزا جزءا من أوبرا الانتصار التى شارك فيها آخرون مثل فرانسيس فوكوياما فى كتابه «نهاية التاريخ». وفى مواجهة هذا السيل الأكاديمى والإعلامى، حاول مئات من المعلقين السود وبعض المعلقين البيض وأفلام وروايات وأغنيات ولوحات على مدى عقود توضيح مدى تجذر وعمق ودموية العنصرية وأن حلها لن يتأتى من خلال القانون والسياسات فقط. ولمح بعضهم مثل فرانك ويلدرسون، رئيس قسم الدراسات الإفريقية الأمريكية فى جامعة كاليفورنيا، فى كتاب صدر الشهر الماضى، إلى أن الحل الوحيد ربما هو تدمير النظام وحرقه.
فى البداية، كان ويلدرسون يعتقد أن الأسود يعانى مثلما يعانى الفلسطينى والسكان الأصليون فى أمريكا والعمال الفقراء، ولكن بعد سنوات من الدراسة والعمل الثورى فى جنوب إفريقيا، بدأ الرجل يفكر بطريقة مختلفة. صار الأسود فى نظره ليس إنسانا يعانى من التمييز، بل وضعته المؤسسات والممارسات الأمريكية خارج نطاق البشر وهكذا لا يعثر على حل لهذا الوضع التراجيدى سوى القضاء المبرم عليه، ومن قلب دخان حرائق المؤسسات القائمة.
ويبدو أن ويلدرسون ومؤيدوه قد يكونوا محقين، فأمام الرغبة فى إنهاء هذه الأوضاع الظالمة القائمة هناك الخوف من الأثمان المرتفعة التى سيتعين دفعها، والشك فى النتيجة النهائية. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم موجة الغضب المتشائمة المدمرة التى دفعت الأمريكيين السود وغيرهم نحو الشغب والحرق، ويمكن فهم المشاعر المتناقضة من التأييد للخوف فى الوقت نفسه. فهذه الألعاب النارية والاحتجاجات المتصاعدة فى الولايات المتحدة فى السنوات القليلة الماضية، قد تكون التدريبات الأولية على سبل مدمرة للغاية للقضاء على هياكل العبودية الحديثة العميقة المتجسدة فى قسم الشرطة والسجن والمدرسة، بل والمصرف والبرلمان وغيرها من مؤسسات المجتمع التى بات ينظر إليها أكثر فأكثر على أنها تجليات للمشكلة وليست طريقا للحل، وهكذا يقف قطاع متزايد من الناس بين الخوف من الطوفان أو تمنى وقوعه كى ينتهى هذا الانتظار والواقع المزعج، وهكذا لن يكون فلويد القتيل الأخير.
النص الأصلى