عودة لموضوع الأيديولوجية القومية العربية. فلقد بينا فى مقال سابق توفر التاريخ العربى – الإسلامى المشترك المتفاعل المتشابك أثناء فترات العديد من أشكال وأسماء أنظمة الحكم فى بلاد العرب، عبر ما لا يقل عن ثمانية قرون متواصلة، ومعه انتشار وترسخ اللغة الواحدة العربية، وفى قلبه بناء وتجذر أشكال كثيرة من مكونات الثقافة العربية الواحدة، وبالتالى الهوية العروبية الواحدة.
ثم بينا انقطاع أو تعثر ذلك أثناء الحكم العثمانى لقسم كبير من أرض العرب. حتى إذا وصل ذلك الحكم إلى نهايته منذ قرن من الزمن، وتأثرا بقيام الأيديولوجيات والهويات القومية والدول فى أوروبا على الأخص، وكرد على نتائج معاهدة سايس – بيكو التجزيئية الاستعمارية، طرح حزبا البعث العربى الاشتراكى والناصرى وحركة القوميين العرب أيديولوجية قومية عربية تكونت من ثلاثة شعارات كبرى: الوحدة العربية والحرية والاشتراكية (أو العدالة الاجتماعية).
لكن تلك الأيديولوجية، بأشكالها وظلالها المختلفة، تعثرت لأسباب كثيرة، بما فيها وجود بعض النواقص فى فكرها وأهدافها. من هنا جاءت المراجعة التى انتهت إلى إضافة ثلاثة مرتكزات أخرى إلى تلك الأيديولوجية هى: الديمقراطية والتنمية الشاملة المستدامة والتجديد الحضارى.
هل إن تلك الخلفية الموغلة فى تاريخ مسيرة عربية مشتركة كبرى، وتلك الأهداف النبيلة القادرة، إن تحقق حتى جزء منها، على إنقاذ هذه الأمة من تخلفها التاريخى، وهوية العروبة التى بنيت عبر قرون وكانت أساس لغة واحدة وثقافة وعادات وعقائد وسلوكيات متشابهة إلى أقصى حدود التماثل، وارتباط المصالح عبر تلك المسيرة.. هل كل ذلك قابل لوصفه من قبل البعض بأنه أوهام وأحلام يقظة وأن الأيديولوجية المنبثقة منه غير قابلة للتحقق؟
نعم، قد نختلف حول أسلوب تحقيق تلك الأهداف، فالبعض يريده فى شكل ثورات جذرية، والبعض الآخر يريده كخطوات تدرجية، وعن طريق نضال ديمقراطى سلمى.
ونعم، قد نختلف حول أولويات شعارات تلك الأيديولوجية. فالبعض يعطى الأولوية للانتقال إلى الديمقراطية فى كل قطر عربى قبل أى خطوة أخرى، والبعض يرى أن كثرة وشدة بأس الأعداء يتطلب إعطاء الأولوية لنوع من توحد جهود وإمكانيات كل الأقطار العربية فى شكل شبكة وحدوية متماسكة للتعامل مع الأعداء بندية وبقدرات ذاتية.
وهناك حتما خلافات حول تفاصيل كثيرة تتعلق بالتنمية والديمقراطية والتجديد الحضارى. وهى مواضيع حديثة ومختلف حولها حتى فى مواطنها الأصلية.
ومن المؤكد أن مبادئ القيم والأخلاق والسمو الروحى الإسلامية ستكون معينا لهذه الأيديولوجية فى عدم السماح للجوانب البرغماتية أن تنقلب إلى انتهازية، وللجوانب المادية أن تتحكم فى وتعلو على توازنها مع الروحى، ولمنطلقات الحق والعدالة والميزان أن لا تبتذل وتقبل بوجود أى امتيازات سياسية واقتصادية أو اجتماعية غير مستحقة لهذه الجماعة أو تلك. وهذا أيضا سيكون محل جدال.
لكن كل ذلك لا يبرر استبدال الإيديولوجية القومية العروبية الوحدوية بأيديولوجيات أخرى لا ترتبط بعمق وجودى مع حاجات الواقع العربى. فمثلا من المؤكد أن استعارة وتبيئة أجزاء من الأيديولوجية الليبرالية الغربية الكلاسيكية والأيديولوجية الاشتراكية الماركسية سيكون ضروريا لإغناء أيديولوجيتنا ولتحديثها وعصرنتها. لكن ذلك شىء والمساس بالجوانب الوجودية المفصلية فى الأيديولوجية القومية، كوحدة الأمة العربية والوطن العربى الكبير، شىء آخر.
ما يهم بالدرجة الأولى هو أن يدرك شباب وشابات هذه الأمة، من الملتزمين بالنضال الجماهيرى والمنخرطين فيه، بأن الحملة الثقافية الاستعمارية والصهيونية ومن بعض الدوائر والرجعية، من خلال أبواقهم الإعلامية وكتبتهم وبعض مثقفى الردة وتبديل الجلود حسب الحاجة، هى محاولة مشبوهة لإيقاف مسيرة هذه الأمة لاستعادة كيانها وحيويتها والنضال من أجل آمالها وأحلامها الواقعية المشروعة.
إنها حملة هجوم على ذاكرة الأمة، وفكرها الوحدوى، وتطلعاتها المستقبلية تحت مسمى الابتعاد عن الأيديولوجيات، حتى ولو كانت إنسانية سلمية منفتحة.
مفكر عربى من البحرين