مثلما يجد كل حاكم أسبابا موضوعية ومنطقية لحتمية استمراره فى موقعه وضرورة بقائه فى منصبه، وكلها من نوعية الحفاظ على سلامة الوطن وحمايته من الانقسام وتجنيبه ويلات الفوضى والعنف، كذلك يسير الرئيس مرسى فى ذات الطريق، رافضا الاعتراف بحجم الاحتجاج ضده شخصيا وضد نظامه الحاكم. هذه المرة يتعلق الرئيس والمتحدثون باسمه بأربعة أسانيد أو اساطير رئيسية تحتم بقاءه، أود عرضها والتعليق عليها:
أولا: ان الرئيس مرسى هو اول رئيس شرعى منتخب، وخروجه قصرا قبل انتهاء مدته هو قضاء على الشرعية ذاتها وعلى التجربة الديمقراطية الوليدة. والحقيقة ان الغالبية العظمى من الشعب المصرى ــ حتى من انتخبوا خصمه أو لم ينتخبوا أحدا ــ كانت معترفة بهذه الشرعية فى الأشهر الاولى لحكمه. ولكن شرعية الرئيس ليست دائمة ولا هى ملك له وحده، يهدرها ويعبث بها كيفما يشاء، متصورا انها حق مقدس يلازمه منذ يوم انتخابه وحتى نهاية مدته. الشرعية عقد بين الرئيس المنتخب وبين الشعب، بموجبه يتمتع الرئيس بصلاحيات الحكم المنصوص عليها فى الدستور، مقابل التزامه بالعمل على الصالح العام وباحترام المبادئ الدستورية وببذل كل جهده للحفاظ على امن الوطن واستقلاله. اما لو خالف الرئيس هذا العقد فإن الشعب يكون من حقه ان يقوم عليه ويطالب برحيله ويبحث عن بديل له ولو كان خلال مدة رئاسته. والرئيس مرسى لم يخالف بندا واحدا فى العقد المبرم بينه وبين الشعب المصرى، بل خالف كل الوعود التى قطعها على نفسه: احترام المبادئ الدستورية، والاهتمام بمشاكل المواطنين، وان يكون رئيسا لكل المصريين، وألا يقبل دستورا غير توافقى، وان يعمل لصالح الوطن لا لصالح الحزب والجماعة، وان يحترم القضاء واستقلاله، وان يحترم حرية التعبير والإعلام، وان يرفض التمييز بين ابناء الوطن الواحد، ثم أخيرا ان يتخلى عن الحكم اذا شعر ان الشعب لم يعد راضيا عنه. الشرعية كانت حقيقية والذى اهدرها هو الرئيس وجماعته. بقاء الرئيس، ولو كان حتى ممكنا بالقوة وبالقصر، فهو يعنى استمرار رئيس لا يملك الشرعية للحكم ولا القدرة على إدارة البلاد.
ثانيا: ان البديل عن الرئيس فى هذه اللحظة هو الفوضى والعنف ودخول البلاد فى نفق مظلم. والحقيقة ان البلد قد وصل بالفعل إلى درجة خطيرة من الفوضى والانقسام والعنف، ولا يوجد ما يدعو للاعتقاد ان بقاء الرئيس سوف يخرجنا منها. ولنتذكر ان السبب الرئيسى لهذه الحالة ليس الأزمة الاقتصادية ولا انتشار السلاح ولا مؤامرات أطراف ثالثة ورابعة، فكل هذه ظواهر عاش معها المصريون آلاف السنوات، بل السبب المباشر هو انه فى كل أزمة وكل فتنة ألمت بالبلاد فإن الرئيس اختار ان ينحاز أو يختفى وعجز عن ان يظهر امام الناس رئيسا لهم جميعا أو حتى حريصا عليهم دون تفرقة أو تمييز. حينما ثارت مدن القناة تجاهلها، وحينما تظاهر الناس حول قصره تركه وراح يتحدث عن إتلاف الزرع والسيارة، وحينما ألقيت قنابل المولوتوف على الكاتدرائية لم يعن حتى بزيارتها، وحينما طحن القطار ابناء الصعيد ارسل مندوبا عنه. الفوضى والانقسام والعنف للأسف نتائج طبيعية لهذا الأسلوب فى الحكم. ولنتذكر أيضا انه فى الايام القليلة السابقة على اعلان نتيجة انتخابات الرئاسة شاع فى البلد انه لو لم يعلن فوز المرشح د. مرسى، فإن البلد سيسقط فى بحر من الدم والعنف، ثم فاز الرئيس ولم نتوقف كثيرا عند هذا التهديد اقتناعا بصحة النتائج واحتراما لنتيجة الانتخاب. ولكن كان يجب إدراك ان من يشيع هذا المناخ من الرعب فى بداية حكمه سوف يظل معتمدا عليه فى كل أزمة تواجهه بعد ذلك. ولذلك فإنه أيا كانت الملابسات المؤسفة التى أدت إلى سقوط ضحايا وشهداء ومصابين من ابناء الوطن فى الايام الماضية، فى أسيوط والإسكندرية والمنصورة وغيرها، فإن المسئولية عنها جميعا تقع فى النهاية على عاتق النظام الذى دفع بالوطن إلى حافة الهاوية ثم وقف يصرخ «أنا ومن بعدى الطوفان».
ثالثا: ان الثورة ضد الرئيس فى الوقت الحالى لن تصب الا فى مصلحة النظام القديم وتمهد لعودة الرئيس السابق وأركان حكمه إلى السلطة. وهذه فزاعة اخرى وأسطورة لا مجال لها هنا. الثورة ضد الرئيس مرسى وضد حكمه لها أسبابها ولها جمهورها الذى يقدر بالملايين ولها دوافعها المستقلة تماما عن أى نظام قديم أو أية مؤامرات حقيقية أو وهمية. الانقسام حقيقى، والخروج عن الدستور كذلك، والأزمة الاقتصادية طاحنة، وتجاهل الرئيس للناس ومشاكلها حادث بالفعل. ان تكون هناك أياد خفية أو ظاهرة تستغل كل هذا امر ممكن الحدوث ولا استبعده. ولكن لا يجوز تجاهل السبب الرئيسى والبحث فى نتائجه وتداعياته. وعلى أى حال، فإن عودة النظام القديم غير ممكنة. الشعب الذى ثار مرة وثانية وعاشرة خلال عامين ونصف العام الماضيين لن يسكت على عودة نظام اسقطه بالفعل ولن يقبل استبدادا من أى نوع ولا بعودة عقارب الساعة إلى الوراء.
رابعا: ان المعارضة ليس لديها بديل وكل ما تطرحه هو الإطاحة بالرئيس وإشاعة الفوضى دون تفكير فيما سيأتى. وهذه قضية اخطر واكثر تعقيدا. حركة «تمرد» التى التف الناس حولها وناصروها ووثقوا فيها كان ولايزال لها مطلب واضح ومحدد، تنحى الرئيس وانتخابات مبكرة. هل هذا كاف؟ هل هذا بديل؟ ليس بالضرورة، ولكنها بداية يمكن البناء عليها. فى الاسابيع الاخيرة.. طرحت بدائل متعددة، حول دور يقوم به رئيس المحكمة الدستورية، وحول مجلس رئاسى، وغيرها. افكار مبدئية وغير مكتملة ربما، ولكن فى المقابل ماذا طرحت الرئاسة؟ لا شئ. القضية الآن ان الاحزاب لم تعد هى التى تقود هذا الاحتجاج وهذه الثورة الثانية، ولا الاعلام ولا المتآمرين، بل هذه لحظة سارت الجماهير فيها وراء حركة «تمرد» لأنها حركت المياه الراكدة وخرجت من الطريق المسدود الذى وصلنا اليه واتجهت إلى الناس مباشرة تستفتيهم وتعبر عن رفضهم للمسار المعوج الذى تسير فيه البلاد منذ نهاية العام الماضى (وليس بالمناسبة منذ انتخاب الرئيس مرسى) والإصرار على تغييره، والرغبة فى طرح بدائل جديدة. هذه قضية بالغة الأهمية وصعبة وتمثل تحديا حقيقيا للوطن كله ولكنها ليست دافعا لرفض التغيير.
نحن امام موجة جارفة ستجتاح ليس فقط الرئيس وحكومته ولكن أيضا كثيرا من تراكمات العامين الماضيين فى الحكم وفى المعارضة وفى المجتمع، وعلينا ان نقبل التغيير ونحترم من دعوا اليه ومن شاركوا فيه ونحرص على سلميته وعلى حقن دماء المصريين بكل الوسائل الممكنة، اما مجرد الخوف من التغيير فلم يعد ممكنا ولن يحقق سلاما ولا استقرارا ولا أمنا.