المقريزى والبغدادي والسيوطي: الملهمون الثلاثة لموسوعة وصف مصر! - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الجمعة 5 يوليه 2024 3:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المقريزى والبغدادي والسيوطي: الملهمون الثلاثة لموسوعة وصف مصر!

نشر فى : الثلاثاء 2 يوليه 2024 - 6:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 2 يوليه 2024 - 6:55 م

قبل أكثر من 300 سنة من وصول جيش نابليون بونابرت على مصر كان جلال الدين السيوطى قد وضع كتابًا صار مصدر إلهام للحملة الفرنسية فعادوا إليه مرارًا فى موسوعة «وصف مصر». الكتاب الذى وضعه السيوطى يحمل عنوان «كوكب الروضة»، ويحوى كل شاردة وواردة عن هذه الجزيرة، التى كانت تحمل فى الأصل اسم «جزيرة مصر».

الروضة فى عهد السيوطى وعهد الحملة الفرنسية كانت اسمًا على مسمى: «روضة من رياض الجنة».

السيوطى متهم عند بعض النقاد بأن أعماله الغزيرة المتنوعة ليست من حبر قلمه ووحى علمه بل منحولة أو مسروقة من أعمال آخرين سابقين عليه.

لكننا فى هذا الكتاب لا نجد أثرًا لهذه التهمة، فالمؤلف لا يستخدم تعبير «تأليف» بل تعبير «جمع»، كما لا ينسب لنفسه شيئًا تقريبًا بل يرجع جل المعلومات لأصحابها لا سيما للمؤرخ/الجغرافى العظيم تقى الدين المقريزى.

استلهم علماء الحملة الفرنسية الكتاب الصادر قبل وصولهم بعدة قرون، وحين جابوا جزيرة الروضة وجدوها حقا كوكبا كما ذهب السيوطى.

اختبر الفرنسيون جغرافية الجزيرة كما قدمها السيوطى بل ذهبوا إلى الطرف الجنوبى للجزيرة حيث الموضع الذى يقال إن أم موسى عليه السلام قد ألقته رضيعًا هنا فى اليم.

خلص الفرنسيون إلى أن أفضل موقع صحى لحياة الإنسان وجمال البيئة النباتية والنهرية فى كل عموم مصر يقع فى هذه الجزيرة.

قرر الفرنسيون تأسيس عاصمتهم هنا بعد أن فاضلوا ودرسوا كل مواقع مدينة القاهرة ولواحقها فى بولاق والجيزة وطرة والبساتين ودير الطين.

انتهى الفرنسيون إلا أن عاصمة إمبراطورتيهم فى مصر لا بد أن تكون فى جزيرة الروضة.

والحقيقة أن موسوعة "وصف مصر" تعد سجلا حافلا لحالة البيئة والإنسان فى مدينة القاهرة خلال نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر.

لم يكن تمثيل القاهرة فى موسوعة وصف مصر متسقا فقط مع مشاهدات الحملة الفرنسية، بل جاء فى الحقيقة استكمالا لتراث جغرافى عريق سواء من الرحالة أو تقارير المسافرين الأوروبيين قبل الحملة الفرنسية.

 فى مقدمة ما اعتمد عليه علماء الحملة فى فهم جغرافية القاهرة تلك الموسوعات الكبرى التى كتبها جغرافيون مؤرخون مصريون فى مقدمتهم تقى الدين المقريزى وعمله الخالد "المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار"،

علاوة على الكتاب الجامع "بدائع الزهور فى وقائع الدهور" لمحمد بن إياس الحنفى المصرى الذى يضم شذرات من جغرافية مصر وتفاصيل من تاريخها حتى عام 1522.

كما استقى علماء الحملة معلومات شتى عن البيئة والعمران والآثار من عبد اللطيف البغدادي: " الإفادة والاعتبار فى الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر". والصادر قبل وصول الحملة الفرنسية بنحو 600 سنة.

 وهذا البحث الذى تركه البغدادى وإن كان صغير الحجم لا يمكن مقارنته بموسوعة وصف مصر، إلا أنه يمثل نموذجا شديد التركيز لأعمال كثيرة عن أحوال مصر وأهلها عبر القرون،

وتعد موسوعة وصف مصر مثالا لعرض "صورة الأرض" فى عاصمة البلاد عند منعطف القرن الثامن عشر وولوجه للقرن التاسع عشر، وتضمنت رؤى علمية واستشراقية ومعلومات وصفية عن كل من الأرض والإنسان والعمران والانثروبولوجيا الثقافية.

تمكنت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر قبل أكثر من 220 سنة من ترسيخ العلم الاستعمارى، أو الاستعمار القائم على العلم. وكانت هذه الحملة فتحا جديدا فى عالم الاستعمار المنظم، فكلّما زادت المعلومات التى يجمعها المستعمر عن البلاد زادت قدرته على إحكام قبضته عليها. 

والكتب الثلاثة التى اعتمد عليها علماء الحملة الفرنسية فى وصف مصر، والتى كتبها المقريزى والسيوطى والبغدادى قدمت مصادر مهمة عن مدينة القاهرة.

كانت القاهرة فى وصف الحملة هى ثانى أهم مدينة فى الإمبراطورية العثمانية بعد القسطنطينية.

قدر علماء الحملة مساحة القاهرة بأقل من ربع مساحة باريس، وتم تقدير عدد سكان القاهرة بحوالى ربع مليون نسمة (بالتحديد 260 ألف نسمة)، وكان السكان عرضة للأوبئة الكبرى مثل الجدرى والدوسنطاريا، علاوة على أهم الأمراض لا سيما الطاعون اللى كان يضرب القاهرة مرة كل ثلاث إلى أربع سنوات، وحصد الطاعون بالفعل خلال وجود الحملة الفرنسية ضحايا بمعدل 400 شخص يوميًا. وكان الرمد أكثر الأمراض انتشارًا فى القاهرة، لدرجة أن 1 من كل أربع أفراد فى القاهرة كان يضع عصابة على إحدى العينين.

وقد أقام الفرنسيون محجرًا صحيًا فى جزيرة صغيرة واقعة شمال جزيرة بولاق. وكانت هذه الجزيرة على الأرجح من طرح النهر، لأنها اختفت أو التحمت لاحقًا بجزيرة بولاق التى نعرفها اليوم باسم الزمالك. وقد أرجع علماء الحملة التكدس الكبير لسكان القاهرة إلى عزلة الأحياء وانفصالها بعضها عن بعض.

وقد اعتبرت الحملة الفرنسية مصر أكثر بلاد الشرق شبها بأوروبا، وأن تجارتها تعد واحدة من أكثر تجارات هذه المنطقة انتشارًا. ورأى كتاب وصف مصر أن القاهرة هى الوحيدة التى تزود بلدان الشرق ببضائع أوروبا، وذلك بسبب موقعها بين قارتين، يضاف إلى هذا أنها تمثل لإفريقيا الحلم الأوروبى (الفرنسى) الذى ينبغى تحقيقه.

ورأت موسوعة وصف مصر أنه كان بوسع فرنسا أن تستعيد مجد مصر الذى انتهى بزوال دولة قدماء المصريين والملوك الأوائل للأسرة البطلمية.

والمدهش أن علماء الحملة الفرنسية بعد أن أتموا كتابة موسوعتهم الضخمة عن «وصف مصر»، قالوا إنهم يتمنون أن تكون لديهم موسوعة بنفس الحجم والقدر عن «وصف فرنسا»، إذ لم تكن هناك وقتها موسوعة ضخمة تحمل كل تلك المعلومات عن البلد الخاضع للاستعمار مقارنة بالبلد الذى ارتكب العدوان والغزو وقام بالاستعمار ذاته!

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات