فى خبرات عديدة عمل أساتذة العلوم السياسية فى الحقل السياسى مؤيدين أو معارضين، لكنهم بعد انتهاء التجربة السياسية عادوا إلى الحياة الأكاديمية برؤية نقدية، وشكلت دراساتهم مجالا مهما للجدل الأكاديمى. فمثلا «لارى دايموند» أستاذ العلوم السياسية بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة أهم من تناول «الديمقراطية» فى كتاباته الغزيرة، عمل فى ظل إدارة بوش الابن، خاصة فى أعقاب الغزو الأمريكى للعراق، ثم ما لبث أن ترك التجربة، وكتب كتابا مهما «الفوز المجهض فى العراق»، تناول فيه بالنقد والتشريح السياسات الأمريكية الخاطئة بذهن أكاديمى من واقع تجربة سياسية.
فى الفترة الماضية ظهرت كتابات مهمة للدكتور على الدين هلال، وتحدث بعد سنوات فى برنامج على إحدى الفضائيات مقدما نقدا وتحليلا لأفول نظام مبارك فى ظل رؤية أوسع للدولة المصرية. يظل حديثه مهما، رغم ما يمكن أن يتشكل من اختلاف حوله، لأنه حديث أكاديمى لا يشق له غبار كان جزءا من هذه التجربة السياسية، مما يفتح الباب، فى رأيى، أمام دراسات سياسية عن الثورة المصرية، كيف ولماذا حدثت؟ وما آلت إليه؟. وهى مساحة أكاديمية لا تزال مهملة نظرا لأن كثيرين ممن خاضوا التجربة السياسية خلال السنوات الماضية لم يتناولوها بشكل أكاديمى، فضلا عن أن بعضهم شغلته دوامة السياسة عن البحث الأكاديمى.
نحن بحاجة إلى نقاش وجدل أكاديمى عما حدث ويحدث فى مصر، وللأسف فإن كثيرا مما نقرأه لباحثين غربيين يبدو أكثر رصانة مما نتناوله فى الصحف، والدوريات، وهو ما يستدعى أن يشارك باحثون مصريون من مشارب واتجاهات متنوعة فى دراسات جادة بعيدا عن التحيزات الشخصية التى لا تزال تؤثر فى تناولنا للعديد من القضايا، والتى تعبر عن مواقف سياسية أكثر ما تعبر عن نظرة أكاديمية.
لاحظت ذلك فى بعض التعليقات على حديث الدكتور على الدين هلال، والذى قد نتفق أو نختلف معه، لكنه يقدم تحليلا من أستاذ علوم سياسية له باع طويل فى دراسة النظام السياسى، وخلفية اكاديمية رصينة، وخبرة ممتدة، وأهم ما يميزه بالإضافة إلى علمه، علاقاته الإنسانية العميقة مع كل الأطياف، وطوال حياته الأكاديمية الممتدة أشرف على رسائل علمية لباحثين من تيارات سياسية متعددة، إسلاميين، ويساريين، وليبراليين، وسعى خلال فترة توليه عمادة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التى يراد لها الآن أن توصد أبوابها أمام المتفوقين من محافظات أخرى، أن يطور أداءها.
آثر الرجل فى أعقاب ثورة يناير أن يخلد إلى حياته الأكاديمية، مفضلا تأمل المشهد بعمق، وقدم دراسات وتحليلات تمثل قيمة مضافة فى البحث السياسى عما حدث فى مصر، ومحاولة دراسة تطور النظام السياسى، وهو جهد ينبغى أن يتضافر مع جهود باحثين آخرين لهم تجربة سياسية خلال السنوات الماضية، بعضهم كتب، وبعضهم شغله الصراع السياسى، مما جعل فى النهاية المكتبة الأكاديمية بحاجة إلى دراسات جادة عن هذه الفترة المهمة فى تاريخ مصر.