كثيرا ما نسمع أن مشكلتنا هى أننا نعيش فى الوادى الضيق على 4 أو 5 أو 7.7 فى المائة (هناك أرقام عديدة فى هذا الصدد) من أرض مصر وطبعا يكون السؤال البديهى لماذا لا نخرج إلى الأراضى الواسعة حولنا وننعم فيها برغد العيش وسعته بدلا من الضيق والتضييق الذى نحشر أنفسنا حشرا فيه. ويصبح الأمر محيرا عندما نسمع الكلام يتردد ممن يوضع قبل أسمائهم دكتور، أستاذ، عالم، أو ربما الثلاثة معا. ولكن هل هى فعلا المشكلة؟
فى القلب من خططنا الكبرى للمستقبل مثل القاهرة 2050 أو مصر 2052 نجد بلورة للتصور الشائع عن المشكلة وكيفية حلها بغزو الصحراء. جزء من الفرضية وراء هذا التصور يصور لنا أن جميع الأراضى متشابهة وهو ما ليس بصحيح على الإطلاق فالصحراء عند الفراعنة كانت أرض الخلود وبمعنى آخر أرض الموت لأن خلوها من المكونات الداعمة للحياة مثل الماء لا يسمح بغير ذلك. أما الجزء الآخر فيقول وهو كلام منطقى جدا ومهم أننا يجب أن نحافظ على الأراضى الزراعية فى الوادى والدلتا وبالرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاما على صدور قانون تجريم البناء على الأراضى الزراعية ماذا حدث؟ هل توقف البناء ووضع المخالفون فى السجن أم ازداد التعدى؟ كما مر أكثر من أربعين عاما على بداية بناء المدن الجديدة فماذا حدث؟ هل اجتذبت عددا كافيا من السكان أم أنها استهلكت وما زالت مواردنا المحدودة ولم تستوعب إلا نسبة قليلة مقارنة بما هو مخطط لها؟
***
مع تزايد عدد السكان فى العالم ومحدودية الموارد الطبيعية يظهر بوضوح لنا فى مصر كما فى باقى العالم مشكلة ندرة المياه العذبة والتى بدونها لا تستطيع حياتنا كبشر أن تستمر ولا لحضارتنا أن تزدهر. وهى مشكلة لن تنتهى حتى لو تم التوصل إلى حل فيما يخص سد النهضة الإثيوبى. وتؤثر محدودية المياه العذبة بصورة مباشرة على إنتاج الغذاء لأن الزراعة مسئولة عن أكثر من 93% من إنتاج غذائنا سواء بصورة مباشرة عن طريق الحبوب والفواكه والخضراوات أو بصورة غير مباشرة عن طريق إنتاج علف الحيوان.
وبدون الطاقة الكافية لا نستطيع العيش وأيضا لا نستطيع تشغيل مصانعنا والماكينات والأجهزة المختلفة التى نحتاجها فى أماكن العمل. وتطلب الحكومة من الشباب الانتقال للمدن الجديدة فرارا من التكدس فى المناطق المختلفة من مدننا ولكن عندما يذهبون ويسكنون مع أسرهم الصغيرة ويبدأون فى التنقل إلى أعمالهم يجدون ما لا يسر من طول وامتداد الوقت اللازم للذهاب والعودة وطبعا هذا ليس فقط مجهدا ولكنه مكلف لدرجة قد لا تكون فى مقدرة الكثير، ناهيك عن التلوث الناتج من إطالة مسافات السير. ويؤثر تلوث الهواء ليس فقط على أدائنا البدنى ولكن أيضا على أدائنا العقلى ويعتبره بعض المتخصصين بمثابة قاتل صامت. وبينما
كانت إحدى زميلاتنا تجرى استعدادها لدراسة وصول الشمس للمناطق السكنية ذات الكثافات العالية مثل بولاق الدكرور وغيرها لاحظت أن من قابلتهم لم يشتكِ من نقص الشمس ولكنهم اشتكوا مرارا وتكرارا من سوء التهوية. ولاحظت الباحثة الشابة أن الكثير منهم يترك باب شقته مفتوحا كى يحظى بالقليل من الهواء. وللأسف الشديد يلاحظ غير الساكن فى تلك المناطق خاصة عند دخولها أول مرة رائحة غير طيبة ناتجة أساسا من سكون الهواء وركوده وهى مؤشر واضح على تدنى نوعية الهواء فى تلك المناطق.
ولا يمكن أن ننسى الزبالة (أفضلها أكثر من القمامة لأنها أقرب تعبيرا بما فيها وأقل تهذيبا من القمامة وهى بالتالى أقرب لحقيقتها) أو ما يطلق عليه أحيانا فى الروايات الرسمية والأبحاث الأكاديمية المخلفات الصلبة والتى هى مرتبطة بالهدر الناتج من الطعام سواء منه نفسه أو من وسائل تعبئته أو تغليفه أو تلك الناتجة عن نقله كما أنها مرتبطة بأعمال أخرى كثيرة. هى مشكلة مؤلمة جدا إذ كيف نرضى لأنفسنا ولأولادنا أن نعيش فى جوار شبه دائم معها.
***
ولكن هل يمكن أن نتناول تلك المشاكل بجدية بدون تعليم ممتاز (وليس فقط جيد أو مقبول أو كما فى أحيان عديدة متواضع) ورعاية صحية مناسبة تشمل الجميع لأن الاثنين هما أساس التنمية كما كتب «أماراتيا سن» الفائز بنوبل الاقتصاد فى كتابه العظيم التنمية حرية.
لا أحد يهوى المشاكل أو يرغب فى القرب منها والغالب أننا نحب أن نبتعد عنها ولكن فارق كبير بين الابتعاد عنها أو الهروب من مواجهتها، من ناحية فإن مشكلتنا أو مشكلاتنا الحقيقية ليست فقط مشتركة مع الدول النامية ولكنها أيضا مشتركة مع الدول المتقدمة مع فارق ليس بالبسيط وهو حجم المشكلة عندنا مقارنة بعندهم ومن ناحية أخرى فإن فهم المشكلة له علاقة بالعمارة والعمران (كما له بجوانب أخرى عديدة) وهذا ما أعتقد أنه ليس فقط صحيح تماما ولكنه ربما يوفر فرصا كبيرة لعمراننا أن يتطور وأن يرتبط أكثر بقضايا المجتمع وأن يساهم بصورة جدية فى التخفيف من بعضها وربما فى حل البعض الآخر.
فهم مشكلتنا أو مشكلاتنا بصورة أفضل هو نقطة البداية وربما تكون الأسئلة الأكثر دقة سواء فى فيما يتعلق بالماء أو الطعام أو الطاقة هى إحدى الوسائل الأساسية لعمل ذلك حتى وإن اضطررنا إلى المجازفة فى السؤال أو سألنا أسئلة قد تبدو غير ذكية أو بسيطة للوهلة الأولى.