تشعر قطاعات من المواطنين بما يتراوح بين عدم الارتياح والاستياء إزاء الاحتجاجات والإضرابات والمطالبات المنتشرة فى ربوع مصر فى الوقت الحالى، والتى درجت وسائط الإعلام على وصفها «بالفئوية». الحقيقة هى أن الوصف، وفيه شىء من التشخيص، لا يعنى شيئا، ولأنه لا يعنى شيئا فهو لا يساعد على التصدى للعلة وعلى علاجها. هل «الفئات» هنا هى نفس «الفئات» المقابلة «للعمال والفلاحين» فى الانتخابات المصرية؟ الواقع هو أن «الفئات» المقصودة فى هذا المقام هى العكس تماما، وأنها أقرب ما تكون إلى «العمال والفلاحين»!
العلة هى أن الأجور والدخول منخفضة، وهى أنها لا تمكن العاملين من تلبية احتياجاتهم المعيشية واحتياجات أسرهم. ثارت دعوة بعد انتقال السلطة من الرئيس السابق إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى تحديد حد أدنى جديد للأجور. مفهوم الحد الأدنى للأجور هو فى الأصل مفهوم يتعلق بالعمل فى القطاع الخاص باعتبار أن أصحاب العمل فى هذا القطاع يمكن أن يمنعوا عن العمال فيه حقهم فى أجور عادلة ومجزية. أما الحكومة والقطاع العام، فالمفترض فيهما أنهما توفران أجورا منصفة للعاملين فيهما بدون حاجة إلى تحديد حد أدنى للأجور. غير أن هذا الافتراض ليس فى محله فى مصر، ولذلك اتسعت المناقشات بشأن الحد الأدنى للأجور منذ شهر مارس الماضى، وبشكل مفهوم تماما، لتشمل العاملين فى الحكومة والقطاع العام أيضا، خلافا للمعمول به فى دول العالم كافة. وبعد ستة أشهر من بدء المناقشات بشأن الحد الأدنى للأجور اندلعت الإضرابات واتتشرت فى قطاعات عديدة، وتركزت المطالبات فيها حول رفع الأجور، وتحسين غيرها من شروط العمل وظروفه، فضلا عن أمور تتعلق بإدارة الوحدات الإنتاجية والخدمية، وبالمسئولين عنها.
يجدر الانتباه إلى أن الإضرابات هى أساسا فى الحكومة والقطاع العام، وهذا ليس شيئا غريبا قياسا إلى ما يحدث فى غرب العالم وشرقه. خذ مثالا الإضراب الذى استحوذ على الاهتمام الأكبر من الحكومة والرأى العام فى الأسبوعين الماضيين، وهو إضراب المعلمين، والذى يكشف عن درجة من التنظيم لا بأس بها فى صفوفهم. فى فرنسا والولايات المتحدة، من جانب، وفى المغرب، من جانب آخر، نقابات المعلمين من أقوى النقابات ومن أكثرها مطالبة بتحسين الظروف التى تؤدى فيها عملها، وهى فى سبيل ذلك أحيانا ما تلجا إلى الإضراب. ليس فى الأمر إذن غرابة، خصوصا أنه لا توجد قنوات مؤسسية فعالة للحوار والاتفاق بين صاحب العمل والعمال، وهم فى هذه الحالة الحكومة والمعلمون.
●●●
إضرابات المعلمين، والأطباء، وغيرهم، تكشف عن أن المسألة ليست فقط مسألة حد أدنى للأجور، بل أنها تتعلق بكل منظومة الأجور وبشروط وظروف العمل برمتها. والتدقيق فى هذه المسألة يفتح الباب على المشكلة الأكبر، وعلى عناصرها التى ينبغى التصدى لها إن كان لمجتمعنا ولاقتصادنا أن يوفر للمواطنين سبل العيش الكريم.
تقول الحكومة أن 30 فى المائة من النفقات فى الميزانية العامة يخصص للدعم و22 فى المائة منها لخدمة الدين العام. هاتان بالفعل نسبتان مرتفعتان للغاية. إلا أننا إذا حللنا الدعم، سنجد أنه إذا استثنينا الدعم المقدم للطاقة، فإن الدعم المقدم للسلع الاستهلاكية، السبب فيه هو انخفاض الأجور فى كل من الحكومة والقطاع الخاص. الدعم علاج، أما العلة فهى فى انخفاض الأجور. والدعم، وبالتأكيد، ليس العلاج الشافى، إلا أنه فى غياب أى علاج مجد آخر، يصبح هو الملجأ الوحيد. من مبررات الأخذ بسياسات التحرر الاقتصادى والخصخصة كان رفع كفاءة الاقتصاد، وهو ما يترتب عليه رفع كل من مستوى الأجور والمعيشة. ما يشاهد من استمرار الأجور فى انخفاضها، ومن تراجع نصيبها فى الناتج المحلى الإجمالى، ومن انخفاض معدل نموها الحقيقى عنه فى مختلف البلدان العربية، ثم احتفال العمال فى شركات ثلاث بالحكم بعودة شركاتهم المخصخصة إلى القطاع العام، أدلة بليغة على أن هذه السياسات، أو تطبيقها، لم تقدم العلاج الشافى المرجو.
يقال كذلك إن الباب الأول فى الميزانية، وهو باب الأجور، يستحوذ على نصيب هائل من الإنفاق العام، وهو ما يرجع إلى تضخم الجهاز الحكومى بموظفين لا يحتاج العمل إليهم. وهذا قول صحيح أيضا، إلا أنه يسكت عن البحث فى أسباب تضخم الجهاز الحكومى. الأسباب هى أنه لا يوجد خارج الحكومة وظائف بأعداد كافية، توفر للعاملين فيها الأمن الوظيفى، والضمان الاجتماعى، بما فى ذلك العلاج الطبى، والإجازات، ومنها إجازات الوضع والأمومة للمرأة العاملة. بعد أن عملت الحكومة على تقليص حجم التشغيل بها، عادت إلى فتح باب الاستخدام فيها، وإن كان بعقود وبشكل مؤقت، أمام حقيقة حجم الطلب على العمل فى القطاع الخاص ونوعيته.
●●●
بالفعل علاج المشكلة صعب إن اقتصر على ميزانية الدولة وأدوات السياسة المالية. بالإضافة إلى العلاج المالى على المدى القصير، فإن العلاج الأساسى ينبغى أن يكون اقتصاديا. لا بد من نمو اقتصادى متوازن وعادل، يعتمد على رفع مستوى الإنتاجية، وعلى توزيع عادل للإنتاجية المكتسبة، يسمح برفع مستوى الأجور وتحسين مستويات المعيشة، ومحاربة الفقر، والانعتاق من الاقتصاد غير المنظم.
النمو الاقتصادى المتوازن والعادل يحتاج إلى تخطيط وإلى سياسة لا بد أن تكون موضوعا للحوار بين الحكومة وأطراف عملية الإنتاج، من أصحاب عمل وعمال وموظفين. الحوار الاجتماعى هو السبيل لدرء الخلخلات فى النشاط الاقتصادى والاجتماعى. لذلك تمس الحاجة إلى أن يصدر سريعا قانون للحرية النقابية ولتنظيم العمل النقابى، يحكم تنظيم العمال وتمثيلهم، ويؤسس قنوات الحوار الاجتماعى. فى هذه القنوات يجرى التشاور والحوار بشأن مختلف جوانب عملية الإنتاج والتوزيع، ويبقى الإضراب ملجأ أخيرا. بعد أن انسحبت اليد الغليظة للأمن، إلى الأبد على ما نرجو، ففى غيبة الحوار الاجتماعى، الإضراب هو الأداة الأولى للاحتجاج والمطالبة. تنظيم علاقات العمل بهذا الشكل هو كذلك سبيل لتحديث الاقتصاد، وهو تحديث ينبغى أن يمتد إلى الاقتصاد غير المنظم عبر أدوار للمنظمات غير الحكومية فى تنظيم أصحاب المنشآت والعمال فى هذا القطاع، وفى مساندتهم فنيا وإداريا.
لابد أن يتعرض الدستور الجديد لعلاقات الإنتاج، ولا بد أن ينص على الحرية النقابية، وعلى قنوات الحوار الاجتماعى، وعلى التزام الدولة بوضع وتنفيذ سياسات فعالة تكفل تحسنا مطردا فى مستوى المعيشة، وتؤمن العدالة الاجتماعية، وبتغيير هذه السياسات إن ثبتت عدم فاعليتها.
الأجــــــــور ومستويات المعيشة هى جوهر العملية السياسية. الفرصة متاحة للأحزاب والحركات السياسية لتتخذ مواقف من هذا الجوهر، فتجتذب مؤيدين وناخبين محتملين، وتنفر آخرين. من أسف أن الأحزاب المصرية لم تفعل ذلك، باستثناء بعض أحزاب اليسار. هذه دعوة لها، حتى لا تقتصر نقاشات مرحلة التحول إلى نظام سياسى جديد على طريقة التصدى لبناء هذا النظام وعلى طبيعته. ستفوز الأحزاب، وستكسب الديمقراطية كثيرا، إن اهتمت مرحلة التحول بجوهر العملية السياسية، وهى فى مصر، تتعلق وفى المقام الأول، بالقضية الاحتماعية.