منذ سنوات ــ أظن عام ١٩٩٦ ــ أتيحت لى فرصة حضور محاضرة ألقاها فى جامعة «كمبريدج» أستاذ الأدب المقارن والكاتب الفلسطينى الراحل «ادوارد سعيد» عن تحليله المعروف عن ثقافة الاستعمار. وأتذكر أن أحد الحاضرين سأله فى نهاية كلمته عن دور المثقف فى المجتمع، فكانت إجابته، بعد تفكير، أن المثقف المستقل هو الذى يعمل على فتح مساحات نقدية جديدة. وقد أعجبنى الوصف وقتها وفهمت أن ما قصده أن مهمة المثقف ليست الدعوة لقضية أو لتيار أو لحزب، فهذا شان أهل السياسة. المثقف المستقل هو الذى يتحدى الأفكار السائدة ويختبرها ويخضعها للتحليل والنقد بغرض تشجيع التفكير الحر وإطلاق طاقات الإبداع وتحرير الناس من سطوة الرؤى الاحادية والجمود الفكرى الذى تفرضه السلطة والمؤسسات المهيمنة على الفكر والبحث والإعلام.
تذكرت هذا الوصف وأنا اقرأ وأتابع خلال الايام القليلة الماضية كلمات الرثاء والتقدير لأستاذى الراحل الدكتور جلال أمين. فقد وصفه المعلقون من قرائه وتلاميذه تارة بأنه كان قوميا عروبيا، وتارة أخرى بأنه كان يساريا مجددا، وبأنه كان أستاذا لامعا فى الجامعة الامريكية، وفنانا وأديبا، وكاتبا ساخرا، وراصدا ومحللا للتغيرات الاجتماعية، ومحرضا على التغيير وعلى التحرر الاقتصادى، وكلها أوصاف حقيقية ويعبر كل منها ليس فقط عن جانب من حياته وشخصيته وإنما أيضا عن مراحل مختلفة فى رحلته الفكرية والمهنية.
ولكن فى تقديرى أن الدكتور جلال أمين كان، وقبل كل شىءآخر، مثقفا مستقلا من النوع الذى وصفه «ادوارد سعيد»، تحمس بالتأكيد لأفكار وقضايا سياسية على نحو ما عبرت عنه كتاباته المبكرة عن الاشتراكية وانحيازه للتيار العروبى بعد عودته من دراسته الجامعية ببريطانيا، ولكنه مع الوقت اتجه لتوجيه طاقته الفكرية الهائلة وثقافته الواسعة وقدرته التحليلية إلى نقد المستقر من الأفكار والشعارات وانارة سبل وزوايا جديدة فى التفكير، ليس بغرض التشكيك فقط أو الهدم فى حد ذاته، بل لكى يساهم فى تحرير العقول وتجديد الافكار ومن ثم البناء والتقدم. ولأنه كان مستقلا بالمعنى الحقيقى، وأقصد بذلك مستقلا ليس فقط عن السلطة الحاكمة بل عن سطوة أى أفكار مسبقة، فلم يسلم من نقده لا الحكومات المتعاقبة ولا الأحزاب والتيارات التى عارضتها، بل لم تسلم أفكاره هو شخصيا من الحالة النقدية المستمرة التى كان يثيرها، ولذلك كانت لديه شجاعة مراجعة أفكاره ومواقفه وإخضاعها لذات آليات النقد والهدم وإعادة البناء التى تعامل بها مع الآخرين.
شخصيا كانت بداية معرفتى به عن طريق صداقته لوالدى فى نهاية السبعينيات حينما جمعتهما تجربة الاقامة والعمل فى الكويت فى الوقت الذى كانت فيه عاصمة للثقافة العربية المهاجرة بعد سقوط بيروت تحت وطأة الانقسام والحرب الأهلية. وكان الدكتور جلال أمين اقتصاديا لامعا فى الصندوق العربى للتنمية وكاتبا منتظما فى مجلة «العربى» التى رأس تحريرها آنذاك الأستاذ «أحمد بهاء الدين». ولكن المعرفة عن طريق الآخرين غير التعامل المباشر، ولهذا فلم أقترب من الدكتور جلال وأتعرف عليه حقيقة إلا حينما التحقت بدراسة الاقتصاد بالجامعة الامريكية فى مطلع الثمانينيات، فصرت واحدا من المئات الذين تتلمذوا على يديه. وقد تميزت تجربة الدكتور جلال الجامعية الفريدة فى تقديرى بسمتين، الاولى أنه كان ناجحا فى جذب الطلاب والباحثين من كل الاتجاهات، فكان يساريا مجددا ولكن كثيرا ممن خرجوا عن اتجاهه الفكرى وصاروا من نجوم العمل الرأسمالى الخاص اعتبروه أستاذا لهم ظلوا على ولائهم وتقديرهم له. أما السمة الثانية فهى أنه لم يكن مجرد أستاذا لعلم الاقتصاد بل كان معلما للتاريخ والاجتماع والفن ومنتقدا للاقتصاد التقليدى ولأدواته ومناهجه التى اعتبرها قاصرة ومنحازة.
وقد استمرت علاقتى به بعد ذلك لسنوات طويلة، وكان من مؤسسى «جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين» الثقافية وعضوا بمجلس ادارتها ومشاركا فى لجان تحكيم جوائزها الثقافية، فكان المتقدمون للجائزة يرتعدون من مناقشته لهم وانتقاده لأبحاثهم ولكن يخرجون من المناقشة مبهورين ومعجبين وفخورين بما فعله بهم. أما لقائى الأخير به فكان منذ أشهر قليلة فى منزل الدكتور «احمد جلال» لحضور مناقشة كتاب «أحاديث برقاش» للاستاذ «عبدالله السناوى» عن لقاءاته وحواراته مع الأستاذ الراحل «محمد حسنين هيكل». وكالعادة لم يسلم الكاتب ولا الكتاب ولا موضوعه ولا الضيوف من نقد الدكتور جلال أمين وحرصه المستمر، حتى بعد أن تقدم به العمر، على أن يستثير الحاضرين وينتقد ما يجمعون عليه ويتحدى البديهيات ويطرح أسئلة أكثر مما يقدم من أجوبة.
رحم الله الدكتور جلال أمين، الكاتب والاقتصادى والأستاذ الجامعى والسياسى والمفكر، والمثقف الوطنى المستقل الذى ساهم فى تعليم الأجيال وتحرير العقول ونشر بذرة التفكير الحر التى لا شك ستنبت وتثمر ولو بعد حين.