صدى مسألة سدّ النهضة فى الصحافة المصرية يدعو للاندهاش. هو يحمى فجأة ثم يبرد، ومن بعدها يعود للحمو. بعض الحجج التى تساق والدعاوى التى تنتشر تدعو للعجب. الأصوات العاقلة موجودة وأنت ترى رجاحة أفكارها بين حين وآخر، إلا أنه عندما يسخن الجدل وتلتهب عناوين الصحافة، فإنك تجد إثيوبيا والسودان وقد قذفتا بكراهية مصر وتعمد الإضرار بالمصريين، ثم تصل الاتهامات إلى قطر واسرائيل وتركيا بل وإيران بأنها تتآمر مع إثيوبيا لإصابة مصر فى مقتل بحرمانها من مياه النيل. السودان، فى هذه الرواية هو ما بين شريك فى المؤامرة وجاهل بمصلحته. ويتفتق ذهن بعض المعلقين عن التلميح بإثارة القلاقل بين المجموعات العرقية فى إثيوبيا وبث الفرقة بينها، بل ويصل الشطط بالبعض الآخر إلى التلويح باستخدام القوة العسكرية ضد إثيوبيا ودكّ سد النهضة بالقنابل لتدميره. والكثيرون يأخذون على الدولة أنها أصدرت إعلان المبادئ الثلاثى ويعتبرون أن هذا الإعلان قد صرّح لإثيوبيا بمواصلة بناء سدّ النهضة بحيث أنه لم يتبق إلا مقارعة مواقفها العدائية بمواقف أكثر عنفا منها.
أول ما يقال عمّا سبق أن حجة التآمر بشأن مياه النيل هى امتداد لحديث المؤامرة الذى صار التفسير لكل ما يحدث لمصر، وهو حديث بليد يَحرِفُ النظرَ عن أصول ما يحدث، وبالتالى عن سبل مواجهته مواجهة فعّالة. ما يقال ثانيةً هو أنه لا يليق بمصر أن تقدّم نفسها دائما على أنها ضحيةٌ. منعدم الحيلة والعاجز هو الذى يكون ضحية على الدوام. لابدّ لمن يلوكون بحديث المؤامرة أن يدركوا أنهم بذلك يقولون إن مصر منعدمة الحيلة وعاجزة. حديث المؤامرة فى الثقافة السياسية المصرية يستحق علاجا جذريا يتخطّى مسألة مياه النيل ولذلك فإن مقامه ليس هنا ولا الآن. أما عن مؤامرة سدّ النهضة المزعومة، فإن أحدا لا يذكر أن أكبر الممولين الخارجيين لسدّ النهضة هى الصين. فهل الصين التى تربطها علاقات ودية بين نظامها السياسى والنظام السياسى المصرى تتآمر هى الأخرى على مصر وتبغى الإضرار بها؟
***
أما عن السودان، فهل يضحى بمستقبله لمجرد الإضرار بمصر؟ هذا كلام لا يستقيم مع أى عقل. لا بدّ من افتراض الرشادة فى الآخرين لكى تستطيع فهم دوافعهم والتعامل معها. ويدهش المرء، كيف يمكن لمن يشكون ليل نهار من تآمر الآخرين، «غربيين» وغيرهم، علينا ومن إيقاعهم فيما بيننا، مصريين وعربا ومسلمين، ويلعنون دنوّ أخلاقهم، كيف يمكن أن يدعوا هم أنفسهم إلى أن نوقع نحن بيد الإثيوبيين؟ ليست هذه شيمتنا ولا ينبغى أن تكون.
أما عن التلويح باستخدام القوة العسكرية ودكّ سد النهضة فهو خيال، فى مجرد ترديده ضرر بمصر لا رادّ له، فلا بدّ من الكف عنه. حتى وإن كان مجرد مناقشة الأمر سخفا، فلنذكر أن أكثر من 2,400 كيلومتر تفصل مصر عن إثيوبيا، فأى قاذفات قنابل هذه التى تستطيع أن تقطع هذه المسافة لتفرغ حمولتها على سدّ النهضة ثم ترجع إلى قواعدها فى مصر؟ أم أن التفكير يمكن أن يأخذ البعض إلى إقامة قاعدة عسكرية فى إريتريا تنطلق منها قاذفات القنابل المصرية وتعود إليها؟ بافتراض أن إريتريا قبلت بذلك، ففى مثل هذه الحالة سترد إثيوبيا عسكريا على إريتريا. سكان إثيوبيا 102 مليون وإريتريا 4,5 مليون نسمة! لا قِبَلَ لهذه الأخيرة بإثيوبيا، فهل تنشر مصر قوات لها فى إريتريا إلى ما لا نهاية لتدافع عنها؟ هذا من ناحية العلاقات الثنائية مع إثيوبيا والتى تصبح ثلاثية إن انضمت لها إريتريا. ولكن خذ عندك إثارة أى عمل عسكرى ضد إثيوبيا على وضع مصر الإقليمى فى إفريقيا. العمل العسكرى سيكون موجها ضد البلد الذى تستضيف عاصمته المنظمة الإقليمية الإفريقية، «الاتحاد الإفريقى». العمل ضده سيكون عملا ضد إفريقيا كلها، فى الوقت الذى تستعد اسرائيل فيه لافتتاح سفارة فى رواندا، حيث يقع أحد منابع النيل، وفى بلدان إفريقية أخرى. مثل هذا العمل هو الذى سيهدد تهديدا قاتلا وصول مياه النيل إلى مصر.
***
فى الموجة الأخير لرفع درجة السخونة لدى الرأى العام، ظهرت فجأةً فكرة إنشاء «تحالف المتضررين» من السدود التى تقيمها إثيوبيا على النيل وروافده، والبلدان المتضررة، بالإضافة إلى مصر هى السودان وجنوب السودان وإريتريا. علمت بالفكرة «الشروق» الغرّاء من «مصادر مطلعة على ملف حوض النيل»، كما كانت «المصرى اليوم» الغراء أيضا قد نقلت عن «مصادر مطلعة على ملّف سدّ النهضة» مبادرة التوافق التى قدّمها السودان. دعك من تجهيل المصادر، وانظر فى أعضاء «التحالف». السودان الذى يُدَّعَى أنه يمكر بمصر، وجنوب السودان الممزّق، وإريتريا وبينها وبين إثيوبيا ما صنع الحدّاد بعد حرب بينهما فيما بين سنتى 1998 و2000. هل من رجاء وراء مثل هذا التحالف؟ ولكن نفس فكرة التحالف من أجل المواجهة لا بدّ من استبعادها لأنها تبث الفرقة فى منطقتنا من إفريقيا. فكرة المواجهة تستند إلى تصور أن مسألة سدّ النهضة هى «لعبة صفرية النتيجة»، أى أن ما يحققه طرف هو لا بدّ خصم من حساب الطرف الآخر. بث الفرقة، والمواجهة، وتصور اللعبة صفرية النتيجة ليست فى مصلحة مصر. تجميع إفريقيا واللعبة البناءة هما اللذان يخدمان المصالح المصرية.
إعلان المبادئ حول مشروع سدّ النهضة لا يستحق الهجوم الذى يشنه الكثيرون عليه، ولا شك بحسن نية فى أغلب الأحيان. كان يمكن للإعلان أن يكون أفضل فى مضمونه وصياغته وترجمته إلى العربية ابتداءً من عنوانه الملتبس فهو أحيانا إعلان وأحيانا أخرى اتفاق إعلان، على ما بين الإعلان، الذى لا يُوَقَّعُ عليه وغير الملزم فى القانون الدولى، والاتفاق، وهو الصك الملزم الذى يُوَقَّعُ عليه، كما فعل رئيسا مصر والسودان ورئيس الوزراء الإثيوبى، ثم يعرض على السلطات التشريعية فى الدول الأطراف ويصدَّقُ عليه. بشأن المبدأ العاشر فى الإعلان الخاص بالتسوية السلمية للمنازعات الناشئة عن تفسير «الاتفاق» أو تطبيقه، كان ممكنا أن يضاف التحكيم والقضاء الدولى إلى المشاورات والمفاوضات والوساطة والتوفيق كوسائل لتسوية المنازعات المذكورة. غير أن فى الإعلان ما يمكن البناء عليه. بالإضافة إلى مبادئ «التعاون فى الملء الأول وإدارة السدّ»، و«الاستخدام المنصف والمناسب»، و«عدم التسبب فى ضرر ذى شأن»، المبدآن الأول والثانى يتعلّقان «بالتعاون»، و«بالتنمية والتكامل الإقليمى والاستدامة». هذا المبدأ الأخير ينص على «التعاون والتكامل الإقليمى عبر الحدود من خلال توليد طاقة نظيفة ومستدامة يعتمد عليها». وبمقتضى المبدأ السادس عن بناء الثقة، «سيتم إعطاء دول المصبّ الأولوية فى شراء الطاقة المولّدة من سدّ النهضة». التكامل الإقليمى هو بالفعل الطريق، هو البديل للمواجهة وللعبة صفرية النتيجة. التكامل الإقليمى يضيف إلى الموجود ولا يكتفى باقتسامه فيربح الجميع من إقامته وتعميقه. التكامل الإقليمى فى حوض النيل ينبغى أن يصبح الشاغل الأول للسياسة الخارجية لمصر ولعلاقاتها الدولية، وهو لا بدّ أن يتسع ليشمل ما هو أكثر من المياه والطاقة. يجب أن تصبح المياه عاملا واحدا فقط من عوامل متعددة فى العلاقات المصرية السودانية الإثيوبية. ينبغى أن تحقق كل من البلدان الثلاثة مصلحة لها فى علاقاتها التكاملية. هى تخسر نسبيا هنا لتكسب أكثر هناك، حيث تحتاج لمزيد من الكسب. هذا هو الاشتراك فى تحقيق الفوائد الذى تقول به نظرية التكامل الإقليمى، هذا التكامل الذى كفل ومنذ الخمسينيات فى القرن الماضى النمو والتنمية والسلم فى أوروبا، القارة التى عرفت الحروب بين بلدانها لقرون بعد قرون.
***
مصر أكثر تقدما من إثيوبيا زراعيا وصناعيا وخدميا. فلتنشط فى مساعدة إثيوبيا على رفع مستوى انتاجها من الزراعة والصناعة والخدمات. فلتُمنَحُ الحوافزُ لقطاعنا الخاص. وإن لم نستطع تقديم المساندة الملموسة وحدنا، فلنوظف علاقاتنا الدولية فى أوروبا وآسيا وفى غيرهما للاشتراك فى دعم الاقتصاد والتنمية فى إثيوبيا. تستفيد إثيوبيا فى الزراعة والصناعة والخدمات ونؤمن نحن المياه ونستفيد فى الطاقة بل وفى تجارتنا الخارجية بتنمية السوق الإثيوبية. وما ينطبق على إثيوبيا ينسحب على السودان.
منطق المواجهة منطق فقير، وكيف لا، وكل أفقه هو الصفر. فلنعتمد التكامل الإقليمى فى حوض النيل سبيلا لتنمية دوله، بما فيها مصر ولتأمين المياه لها. ولنعى أن التكامل الإقليمى لا يعنى أن تكون الدول الأطراف فيه «سمنا على عسل». ليس معناه أن يجلس ممثلو الأطراف حول طاولة التفاوض فيتفقون فورا أو يتفادون الأمور الخلافية فيما بينهم. انظر إلى نتيجة هذا الأسلوب التعس على العلاقات العربية. فى الاتحاد الأوروبى يقضون أياما وليالى بل وشهورا فى التفاوض والاختلاف حتى يصلوا إلى صفقات متكاملة من القرارات فيها ما يرضى الجميع إن لم يكن فيها ما يرضى أحدا منهم رضاءً تاما.
ولتكن بدايتنا الكف فورا عن الإثارة وأحاديث التهديد. إن فى ترديدها ما يؤثر على صاحب القرار نفسه ويقيده عندما يتعيّن عليه اتخاذ القرار.
ومضة تبدّت فى الأسبوع الماضى وانطفأت فى اليوم التالى كانت الإعلان عن زيارة رئيس الوزراء الإثيوبى لمجلس النوّاب المصرى فى الشهر القادم. فلتُقَدُ الومضةُ من جديد ثم فلتضيء، ولتكن الزيارة بدايةً لتشييد البناء الإقليمى فى حوض النيل.