مرة أخرى يضرب الإرهاب فى سيناء ضربته الموجعة ويحصد أرواح شباب مصر من جنود وضباط ومدنيين، فيصيب قلوب المصريين بالحسرة والغضب والرغبة فى القصاص. الأسئلة كثيرة والإجابات قليلة، ولكن فى مثل هذه اللحظات العصيبة، لا مجال للانقسام والخلاف، بل يلزم الاصطفاف والتوحد، تقديرا لتضحيات الشهداء والمصابين، واحتراما لحزن ذويهم، وحرصا على ألا تضيع أرواحهم هباء.
الاصطفاف الوطنى ضرورى فى هذه اللحظة، وقد دعا إليه رئيس الجمهورية فى كلمته إلى الشعب عقب عودته من إثيوبيا كما كرره فى لقائه بقادة الجيش والشرطة والأحزاب أمس الأول، ومعه الحق فى الدعوة لأن مصر بحاجة إلى وقوف المجتمع بأسره، بكل فئاته وطبقاته وأجياله، بجانب الدولة فى معركتها ضد الإرهاب، ولأن المواجهة العسكرية مهما كان فيها من تضحية وبسالة، فلن تكفى وحدها للقضاء على الإرهاب من جذوره ولا لتجفيف منابعه، بل يلزم لتحقيق الانتصار أن يكون المجتمع متماسكا لا منقسما وداعما للدولة وقواتها المسلحة. ولكن كيف يتحقق هذا الاصطفاف الوطنى، وكيف لا يقف عند مجرد ترديد الشعارات التى تصاحب كل فاجعة تهز البلد ثم ما يلبث الخلاف والصراع أن يعود بنا للخلف مرة أخرى ؟
فى تقديرى أن نجاح الاصطفاف الذى يدعو إليه رئيس الجمهورية له شروطا وله تكلفة، إن لم تكن الدولة مستعدة لقبولها والتعامل معها فلن يتجاوز الأمر مجرد التقاط صور جماعية لرؤساء الأحزاب والقيادات الدينية ونعتبرها اصطفافا كافيا.
وأول شروط نجاح ألا يقتصر على الجريمة الإرهابية الأخيرة فى سيناء بل يتجاوزها ويتجاوز هذه اللحظة ويسعى لتوحيد الصف بشكل يتناول القضايا الخلافية الكبرى ولا يرتبط بواقعة محددة مهما كانت فداحتها. نحن بصدد تحديات أمنية واقتصادية واجتماعية كلها خطيرة وكلها بحاجة للاصطفاف الذى يدعو إليه رئيس الجمهورية لكى نتغلب عليها.
كذلك يلزم مراجعة السياسات والقرارات والقوانين التى دفعت إلى انقسام القوى التى كانت منذ عام ونصف متحدة فى رفضها للحكم الإخوانى وظلت متماسكة حتى إقرار الدستور الجديد. وهو انقسام أدى إلى إضعاف الجبهة الداخلية وعزوف جانب كبير من هذه القوى عن الاستمرار فى دعم الدولة كلما ابتعدت عن المسار الديمقراطى.
من جهة أخرى فإن تحقيق الاصطفاف المطلوب يقتضى أن تفتح الدولة مجال الحوار على أربعة محاور: الأول مع شباب ثورتى يناير ويونيو، وأن يصاحب ذلك وقف الحملة الإعلامية والأمنية عليه وتمكينه من استرداد حق التعبير والاحتجاج السلمى والإفراج عن المحبوسين منه بتهمة التظاهر. والمحور الثانى مع طلاب الجامعات والتعامل معهم بعقل وحكمة وسماع شكواهم ومقترحاتهم للتهدئة وليس فقط بالاعتماد على شركات الأمن الخاصة والتفتيش عند البوابات والتهديد بالفصل من الدراسة. أما المحور الثالث فهو بناء الثقة مع الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى التى تؤدى رسالة اجتماعية هامة وتملأ فراغا تنمويا كبيرا والكف عن ملاحقتها والتضييق عليها بلا سبب. وأخيرا فإن المحور الرابع هو فتح حوار جدى ومستمر مع الأحزاب والقوى السياسية وجعلها شريكا فى اتخاذ القرارات المصيرية لأن الأحزاب المؤيدة والمعارضة على حد سواء هى ما يجعل الحكم يتوازن والقرار يصدر بعد تشاور. وقد تعمدت اختيار هذه المحاور الأربعة: الشباب والطلاب والمجتمع المدنى والأحزاب، ليس لأنها وحدها الجديرة بالاهتمام، ولا لأنها تعبر بالضرورة عن الرأى العام الواسع، وإنما لأن كلا منها يمثل جانبا من المجتمع المصرى، يتألم من سقوط ضحايا الإرهاب، ويقدر دور القوات المسلحة فى حماية الوطن، ويرغب فى أن يكون جزءا من الاصطفاف الوطنى، ولكنه يجد نفسه فى مواقف ومناسبات أخرى محلا لملاحقة الدولة وتنكيل أجهزتها الرسمية وهدفا للإهانة من الإعلام الواقع تحت سيطرتها والذى لا يفرق بين إرهابى يحمل السلاح وفتاة تحمل الورود.
هذا عن شروط نجاح الاصطفاف. أما تكلفته فهى ببساطة أن تقبل الدولة الشراكة مع القوى والجماهير التى تريدها أن تصطف، ومعنى الشراكة أن تقبل الدولة الخلاف فى الرأى، وتقبل المعارضة، وتقبل أن تطلع شركاءها على المزيد من الحقائق، وأن تستمع إليهم وتتشاور معهم، أى تقبل أن تتعامل بندية واحترام مع أطراف هذه الشراكة وليس باعتبارهم حاضرين عند الطلب ولكن دون أن يكون لهم رأى ولا موقف.
الاصطفاف الذى دعا إليه رئيس الجمهورية هو الحصن الذى يحتاجه الوطن فى هذه اللحظة الفارقة، ولكن لا يمكن استدعاؤه فجأة وفيما يتعلق بالإرهاب فقط ثم تجاهله بل والاستهزاء به حينما تنقضى الحاجة، بل يلزم بناؤه تدريجيا وبصبر وباقتناع من المسئولين بأن مشاركة الشعب ووقوفه وراء الدولة تكلفة، ولكن عائده أكبر بكثير، وهو التوافق والاستقرار والتنمية.