كانت أختى فاطمة بدورها لغزا بكل معنى الكلمة. عاشت حياة مديدة حتى تجاوزت الثالثة والثمانين، قضت منها عشر سنوات فى لندن، مع زوجها وطلفتيها، حيث كان الزوج يعمل فى مكتب البعثات المصرية، ومثل هذه المدة فى بيروت. كانت حياتها سعيدة بوجه عام، بمعنى كثرة ما مرت به من أوقات سارة ومثيرة، وقلة ما عانته من ملل (فى حدود معرفتى على الأقل). لم تكن على أى حال من النوع الذى يتحمل الملل والحياة الرتيبة، بل كانت على استعداد لعمل أى شىء يشيع البهجة فى نفسها هى وطلفتيها، وكانت تنجح فى العادة فى ذلك بفضل قوة إرادتها وذكائها.
ولكن فاطمة، بسبب أو أسباب غير واضحة لى بالمرة، لم تكن تضمر شعورا قويا بالحب لأبى، ولم تكن تحاول إخفاء ذلك. كلما فهمت فاطمة أكثر، يخطر لى أن هذا الشعور السلبى من جانبها نحو أبى كان مصدره تركيبة فاطمة النفسية أكثر من أى تصرف أو سلوك سلبى من جانب أبى إزاءها. نعم، ربما كان لموقف فاطمة علاقة بنظرة أبى إلى المرأة بوجه عام، والذى كان يظهر فى طريقة معاملته لأمى، وفى اختلاف معاملته للبنتين عن معاملته لأبنائه الذكور، ولكن هذا الموقف من جانب أبى لم يكن بالمرة موقفا غير مألوف من أبناء جيله، ناهيك عن جيل أبيه، ولم تنجح ثقافة أبى أو اتساع أفقه فى تغييره. ظلت المرأة فى نظر أبى مخلوقا به من أوجه النقص ما يفرض عليها أن تقبل عن طيب خاطر لإرادة الرجل، والمرأة فى نظره على أى حال عبء من نواح كثيرة، إذا استطاع الأب أن يزيحه عنه بتزويج بناته لدى أول فرصة معقولة كان هذا أفضل. وتظل البنات حتى يتم تزويجهن فى ظروف المجتمع المصرى فى ذلك الوقت، مصدر قلق للأب، يزيد بكثير عما يمكن ان يصدر من الابن، بسبب ما يمكن أن يجلبه سوء سلوكهم (إذا حدث هذا لا قدر الله) من تنغيصات وفضائح.
مع مثل هذه النظرة للبنت كان لابد أن تكون معاملة أبى لابنه البكر، محمد، مختلفة تماما عن معاملته لابنته فاطمة التى رزق بها بعد محمد مباشرة. ولأن هذه البنت بطبعها كانت ذكية ومطوحا وقوية الإرادة، فقد لاحظت ما يحدث ورفضته، وأبدت تمردا واضحا عليه. لم يكن أبى يتقبل مثل هذا التمرد من أى من أبنائه فما بالك إذا صدر من بنت؟ حاول الأب كبت إرادة فاطمة من البداية، فرفضت ذلك رفضا باتا، ومن ثم نشأ التوتر الشديد، الظاهر والمستتر فى العلاقة بينهما.
حكت لى فاطمة بعد أن مات أبى، قصصا يصعب علىّ تصديقها عن نوع معاملة أبى لها، فأنا لم أشهد من أبى إلا العطف والعدل. صحيح أنه كان نادرا ما يجالسنا أو يبادلنا أطراف الحديث، ولكن ما حكته فاطمة كان يتجاوز هذا بكثير. سمع أبى مرة، لدى عودته من عمله أن فاطمة شوهدت فى الشارع وهى راكبة دراجة فى المقعد الخلفى، حيث جلس ابن الجيران فى مقعد القيادة، كانت فاطمة وابن الجيران فى الحادية عشرة أو الثانية عشرة من العمر. ثار أبى ثورة عارمة، فاستدعى فاطمة وانهال عليها بالضرب. كان هذا هو ما روته فاطمة لى، فإذا كان صحيحا فلابد أن الدافع لدى أبى كان اعتقاده أنه إذا سمح لمثل هذا الحادث أن يمر دون عقاب صارم فإن النهاية ستكون أسوأ بكثير من العقاب. ولكننى فى الحقيقة لاأقبل ببساطة ما تقوله فاطمة فى هذا الأمر. ففاطمة، بالإضافة إلى مزاياها الأخرى التى ذكرتها، كانت أيضا واسعة الخيال، تستطيع أن تضفى على أى حادثة صغيرة أشياء من خيالها ليس لها أى نصيب من الصحة. تحكيها لك وهى فى غاية الجدية والصرامة، وقد ارتسمت على وجهها مشاعر قوية جدا لاتملك معها إلا أن تصدق ما تقوله، ولو إلى حين. بل اننى أذكر أن قصة الدراجة هذه حكتها لنا فاطمة بصور مختلفة فى الأوقات المختلفة، فتضيف أشياء وتحذف أشياء حسب حالتها النفسية.
ما أكثر ما خاصمت فاطمة هذا الأخ أو ذاك، ثم تصالحت معه. وإن كنت لاأذكر مثل هذا التقلب فى علاقتها مع أختها الوحيدة، فقد خرجت هذه الأخت سليمة من تتابع وقائع الحرب والسلام. لاأذكر أيضا مثل هذا العنف بالمرة فى علاقتها بأمى، فقد كانتا دائما على وئام.
قد يلقى هذا الاختلاف بعض الضوء على تصرفات فاطمة ومشاعرها. فهل كانت هذه المشاعر بالغة القوة، ودائمة التقلب، مقصورة على أفراد العائلة من الذكور؟ لااستطيع أن استبعد هذا التفسير، خاصة إذا تذكرت نوع علاقتها بزوجها، ذلك الرجل الطيب الذى دفع ثمناعاليا لمشكلات فاطمة النفسية.
كانت علاقة الزوج بالريف قوية جدا، فهناك نشأ وتعلم حتى سنوات الجامعة، وهناك تقيم كل أسرته، وهى أسرة محترمة، وميسورة، وتربط بين أفرادها مشاعر حميمة.
جاءت إحدى شقيقات الزوج لزيارة فاطمة، فى ردائها الريفى، وهى تحمل سلة مملوءة بكل ما تتوقعه امرأة ريفية أن تبتهج له أى امرأة من سكان العاصمة: البيض والزبد والفطير المشلتت... إلخ. دقت السيدة المسكينة جرس البيت ففتحت فاطمة الباب، فلما رأتها بجلابيتها الريفية ومعها السلة رفضت أن تدخل البيت. لاأدرى ماذا قالت لها فاطمة بالضبط، ولكن شقيقة الزوج عادت مكسورة الخاطر لاتستطيع بالطبع أن تصدق أن شيئا كهذا يمكن أن يحدث.
كانت فاطمة يسيطر عليها خوف مستمر من الميكروبات، واشتهر عنها أنها كانت تغلى الماء الذى تضع فيه زجاجة الإرضاع عدة مرات خشية أن تصيب بنتيها بعض الميكروبات. ربما كان لهذا الحرص المبالغ فيه من جانبها على النظافة علاقة بما حدث لابنتها الأولى، إذ ماتت الطفلة قبل أن تتم سنة من عمرها بسبب حقنة ملوثة حقنها بها أجزجى. وأصيبت فاطمة من جراء ذلك بصدمة عصبية استمرت عدة شهور. كنت وقتها فى نحو السادسة من عمرى، فلا أذكر تفاصيل ما جرى، ولكننى أذكر جيدا أن فاطمة رفضت ان تعترف بأن بنتها قد توفاها الله. وأخذت تصرخ وتكرر أن بنتها مازالت حية. وخشى أبى مما يمكن أن ينتهى إليه إصرارها على رفض الأمر الواقع، فكان يحتضنها ويحيط رأسها بكلتى يديه، ثم يمسح شعرها بإحدى اليدين، ويكرر هذا وهو يقول لها برقة شديدة إن بنتها قد ماتت، وأنه قد تم دفنها، ووضعت حجارة فوق القبر، ويكرر هذا القول عسى أن تعود فاطمة إلى صوابها.
•••
على الرغم من كل ذلك (أم أنه بسبب كل ذلك؟) كانت فاطمة فى نظرنا جميعا شخصية ذات جاذبية لا تقاوم. يطيب لنا فى أحوالها الهادئة أن نتبادل الزيارات معها. كانت دائما محدثة ذكية، قادرة على الضحك الصافى والاسترسال فيه، مقدرة دائما للنكتة الطريفة، بل وقادرة على الاشتراك فى مناقشات فلسفية ونفسية تتعلق بالشخصيات التى تقرأ عنها فى كتب الأدب الإنجليزى، أو فى روايات الأدباء الروس الذين كانت تعشقهم عشقا.
لم يكن غريبا من فاطمة، وقد اجتمعت فيها هذه الصفات، أن تكون عاشقة للمقامرة. ما أكثر ما جلسنا معها، ثلاثة أو أربعة من الأخوة، نلعب بالورق لعبة لايتطلب الفوز فيها أى قدر من الذكاء، ولاحتى قوة الذاكرة. كان الشىء الوحيد الجذاب فى اللعبة هو احتمال الكسب المادى. فإذا بفاطمة تركز تركيزا شديدا، وتفرح أشد الفرح إذا غلبتنا وأخذت نقودنا. كانت تأتى إلينا أحيانا فتدعونا إلى لعبة الورق وتصر على ذلك ثم نتبين أن سبب هذا الإصرار أنها رأت فى طريقها إلى البيت إعلانا كبيرا عن فيلم جديد اسمه (رابحة) من تمثيل كوكا وبدر لاما، فتعتقد اعتقادا جازما أن مرورها بهذا الإعلان لم يكن مصادفة، بل مبشرا لها بتحقيق ربح كبير من لعبة الورق. لم يكن فرحها الشديد بالربح نتيجة لحب شديد للمال، فقد كانت مسرفة جدا فى انفاقه، بل كان الفرح فيما أظن لإثبات تفوقها على إخوتها الذكور.
ما الذى كان يحملنا على أن نغفر لها أخطاءها الكثيرة وتقلباتها المستمرة؟ أظن أن السبب أنها كانت تبدو لنا (وقد كانت بالفعل) صادقة المشاعر دائما. فإذا طلبت من أحدنا الصفح عما ارتكبته فى حقه، لم يخطر لى أى شك فى أنها كانت تشعر بندم حقيقى، ومن ثم كان لابد من الصفح. يبدو أن هذه الدرجة من الصدق فى التعبير عن المشاعر شىء نادر جدا، مما يجعله أيضا شيئا بالغ الجاذبية.