يومان فى بيروت قضيتهما فى صحبة عشرات من رجال ونساء، شيوخ وشباب، يحتفلون بالعيد الأربعين لصحيفة السفير، الصحيفة التى أثمرت بانحيازاتها وموضوعاتها صحفيات وصحفيين ارتفعوا إلى مستوى عالٍ من المهنية واحتل بعضهم مكانة القدوة لبنانيا وإقليميا، وأعطت بتماسكها فى مواجهة أصعب الظروف والتحديات الدرس بعد الدرس لصحف عربية أخرى لتتعلم كيف تتصرف فى الأزمات والمحن تصرف العائلة الواحدة.
•••
قضيتهما أيضا متنقلا بين مقاهى المدينة. أقابل المعارف والأصدقاء، وبعضهم من واقع التجارب اللبنانية المتنوعة خبراء فى الشئون الدولية والإقليمية، ولكل منهم موقف عنيد من حاكم عربى بعينه وقضية عربية مأزومة. المثير، ولعله الفريد أيضا فى العلاقة التى تربطنى بعدد كبير منهم، هو هذا الحساب العسير الذى أتعرض له عند كل زيارة أقوم بها إلى لبنان. عاتبون على حكم المحكمة المصرية القاضى بإعدام أكثر من خمسمائة مواطن دفعة واحدة وبالتالى أنا مسئول. معجبون بالإبداع المتجدد الذى يمارسه المصريون العاديون فى مواجهة أفكار التطرف الدينى وحجج أنظمة القمع، وأنا مسئول ومطلوب منى أن أبرر أو أعترض. قابلت شخصية لها وزنها الثقافى والسياسى، عاتبنى كمصرى على تدهور حالة دولة العراق وانفراط السودان وحروب اليمن وتدهور قطاع غزة والإرهاب المتبادل فى سوريا وانهيار نظام توازن القوى الخليجى وصعود تركيا الإسلامية وانحدارها فى أقل من عقد واحد والفوضى الضاربة فى ليبيا، توقف فجأة قبل أن يطالبنى بتحليل مسئولية مصر عن انبعاث ما يشبه الحرب الباردة بين روسيا والغرب. آخرون، وهم كثيرون قرأوا المشير السيسى سطرا سطرا وبعضهم بدأ يكتب مستقبله ومستقبل مصر والعرب، ولبنان خصوصا، على يديه، ويستعد لمحاسبته إن قصر أو خرج عن الخط.
•••
من الصعوبة بمكان إقناع هؤلاء وغيرهم بأن مصر تغيرت كغيرها من الأشياء والأمم. صعب أن تضيف إلى معلوماتهم، وهى غزيرة بالفعل وحديثة للغاية، حقيقة يمعن فى إنكارها تيار مهم فى الطبقة السياسية المصرية وبخاصة قطاعاتها العائدة لتتحكم فى مفاتيح السياسة والقرار، وهى أن الإنسان المصرى تغير، وأن هذا التغير لابد وأن ينعكس على علاقته بقياداته وتوجهاتها السياسية. مصر تغيرت والإنسان المصرى تغير كما تغير الواقع الإقليمى. هذا النظام الذى أطلقنا عليه ذات يوم تعبير النظام الإقليمى العربى، لم يعد يشبه فى حاضره قليلا أو كثيرا من معالم النظام عند نشأته أو فى مراحل تطوره المبكرة.
يأتيك الرد قويا وعاجلا. ومستندا إلى أدلة من الواقع. نعم التغيير حادث، وهو من طبيعة الأمور، ولكن التغيير الذى يثبت أهمية الدور وضرورته. كنا نتحدث عن القمة الأخيرة التى عقدت فى الكويت كبرهان أكيد على أن شيئا جذريا قد تغير. بل أشياء عديدة. هل أخذت قضية فلسطين فى القمة نصيبها المستحق لها على امتداد ستين عاما؟ هل كانت ستطرح للنقاش لو لم يكن أمين الجامعة، شخصيا وليس بحكم وظيفته، متحمسا لعرضها وإثارتها بل ووضعها فى صدارة جدول أعمال القادة العرب؟ كان يعلم أنه ليس لدى الدول الأعضاء ما تضيفه فى هذا الظرف الذى يمر فيه النظام العربى. من ناحية أخرى تدهور نمط تحالفات النظام العربى وتوازنات القوة فيه إلى حد يسمح لقطر بأن تلعب دور القابض على توازن القوة فى منطقة الخليج، بطموح أن يصل نفوذها إلى المساهمة فى رسم مستقبل منطقة الشام. كيف حدث، وماذا حدث، ليجعل أمير دولة قطر يتجاوز حدود المعمول به فى القمة العربية، فيشير على مصر علنا وفى خطابه إلى القمة، بما يجب أن تفعله حكومتها فى الشأن الداخلى؟
•••
هناك رأى آخر له قيمته، رأى لا يرى التغيير جذريا ولا عميقا. الأمثلة عديدة وبعضها بالفعل مقنع. خذ لبنان نفسه. تغيرت فيه معالم كثيرة ولكن بقيت السياسة الإقليمية بشأنه على حالها. يستعدون الآن لفترة رئاسية جديدة، ويتساءلون بدون حرج أو خجل، ما العمل؟. كانت سوريا عنصرا فاعلا وربما حاسما فى اختيار الرئيس اللبنانى فى 1989 وفى 1998، وكان لدولة عربية أخرى ودولة إقليمية دور رئيسى فى اختيار الرئيس الحالى فى 2008. تميل أكثرية الأصدقاء من رواد مقاهى الحمرا خلال اليومين اللذين قضيتهما فى بيروت إلى أن سوريا لن تكون عنصرا حاسما أو فاعلا فى المرة المقبلة. سوريا فى نظر هؤلاء «موقوفة» عن العمل الإقليمى والدولى بل واللبنانى أيضا لسنوات قادمة، أما الأقلية صاحبة الصوت العالى، والقادرة فعلا على الفعل القوى، فترى أن سوريا، ربما تكون منشغلة معظم الوقت بشأنها الداخلى، ولكنها بالتأكيد مازالت فى جانب غير بسيط من الوقت مهتمة بالشأن اللبنانى. مهم أن نبحث فى لبنان عن دور سوريا فيه وحجم هذا الدور وشكله وأدواته. مهم أيضا أن نبحث فى سوريا عن دور لبنان فيها، وهو دور، بكل الحسابات العسكرية والسياسية متصاعد الأهمية.
كذلك أتت التطورات الأخيرة، بما فيها ما تسرب من كواليس قمة الكويت ومفاوضات أوباما فى الرياض، كاشفة وضرورية لفهم أشمل. خرجت من بيروت، المقاهى والصالونات والفنادق والشوارع، مقتنعا بأن نسبة معتبرة من مفكرى لبنان وساستها، يعتقدون أن تفاهما ما بين السعودية وإيران حادث أو قريب الحدوث، ودوافع هذا الظن أو اليقين كما سمعتها كثيرة, سمعت مثلا عن اقتناع الطرفين، ومصر معهما، بأن عدوا مشتركا يتربص بهم. هو الإرهاب وإن اختلفوا حول ظروف نشأته وأسباب توسعه وممرات تمويله. وسمعت أن إيران تعترف بأنها أخطأت حين استخدمت الإخوان المسلمين لغرض أو آخر، مثل إغضاب السعوديين أو النفاذ إلى داخل الحياة السياسية المصرية أو لتسهيل عمليات دعم حماس. ويتردد أن إيران اكتشفت أن أوضاع العراق ليست بالضرورة فى صالح الاستقرار السياسى والطموحات الإقليمية لإيران.
أضف إلى ما سبق، أن حماس خيبت أمل إيران بموقفها من سوريا وبإغضابها المصريين فى مرحلة حرجة من مراحل النهوض المصرى. هذا النهوض يعرف الكثيرون أنه مطلب سياسى إيرانى.
من ناحية أخرى، ساهمت الضغوط الغربية الكامنة فى مفاوضات جنيف الإيرانية وفى جنيف السورية، والضغوط الصريحة فى المساعى الأمريكية لتصحيح سوء الفهم فى العلاقات السعودية ــ الأمريكية، بدأت تغرس الاقتناع فى عواصم عربية وإقليمية بضرورة أن تقوم فى الشرق الأوسط جبهة اعتدال جديدة، تحل محل تجربة أمريكا الفاشلة مع استخدام الإخوان المسلمين وطالبان الأفغان كجبهة اعتدال إسلامى تتحكم فى التيارات المتشددة الإرهابية وتسيطر عليها. تأمل أمريكا أن تتشكل هذه الجبهة تحت قيادة دول ثلاث هى إيران والسعودية ومصر.
يدعم معلقون هذا الرأى بمؤشرات غير قليلة منها مثلا أن المسئولين فى السعودية ومصر وإيران حريصون كل الحرص على المحافظة على سوريا «دولة موحدة» وعدم السماح بتقسيمها حتى لو استدعى الأمر إحداث تغيير فى مواقفها المبدئية من نظام الحكم القائم أو النظام الذى يمكن أن يقام فى دمشق. يشيرون أيضا إلى توصل الدول الثلاث إلى ما يشبه الفهم المشترك لمستقبل دور تركيا فى الإقليم، والحاجة إلى محاصرة امتداداته السلبية على أمن الإقليم.
•••
الإقليم جاهز فى انتظار خيارات مصر الخارجية، كل الأطراف بدأت تضغط لتكون خيارات مصر أقرب إلى خياراتها، بهذا المعنى لن تكون المشكلة فى أن مصر مؤجلة إقليميا فالإقليم جاهز بخيارات جديدة. المشكلة تكمن فى أن مصر مؤجلة مصريا