كثيرا ما سمعنا من يقول: ربنا قال فى القرآن.. ثم يتلوا آية من الآيات ويعتبرها حكما منزلا وذلك دون أن يتنبه أن القول قد يكون على لسان أحد من البشر أو على لسان الكفار أو حتى على لسان الشيطان.
فنجد مثلا من يقول «ده ربنا قال ــ على النساء ــ فى القرآن: «إن كيدهن عظيم».. مع أن القائل هو عزيز مصر عندما اكتشف كذب امرأته وخيانتها.. فقال: «إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ»(سورة يوسف: الآية 28)، ومثل من يقول: «إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً»(سورة النمل: الآية 34) ما يوحى بأن الحكم الملكى فاسد بطبعه وأن الملوك جبلوا على الفساد، مع أن القائل هنا هى ملكة سبأ وقالت قولها هذا وهى على دين عبدة الشمس والكواكب، والملك الذى كانت تقصده هو الملك النبى الصالح سليمان فكيف يكون هذا حكما عاما على الملوك فى كل زمان ومكان ونضرب به الأمثال..
بل إن هناك آية كاملة فى القرآن الكريم تقول: «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْر» (سورة الجاثية: الآية 24)، وهى من كلام الكفار.. فهل يصح أن نقول إن ربنا نفى وجود الحياة الأخرى.. أم ننسب القول لقائله؟!.
***
القرآن الكريم يتضمن العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والقصص.. «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ»(سورة يوسف: الآية 3).. والقصص تتضمن حوارات بين شخوصها.. فيجب أن نعرف دائما من المتكلم.
والذى دعانى للكتابة فى هذا الموضوع هو مقطع شاهدته على اليوتيوب يقول فيه كاتبه: اللى يقولك ربنا قال: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» (سورة يوسف: الآية 99)، قوله وقال: «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ» (سورة القصص: الآية 21).. يريد أن يقول إن مصر غير آمنة وأهلها ظالمون.
والحقيقة التى يعرفها كل من قرأ القرآن بقلب سليم أن الآية الأولى قالها النبى يوسف عندما استقبل أهله أجمعين فى مصر التى وجد فيها من العدل والأمن ما أوصله إلى أعلى المناصب.. من العبودية والسجن إلى رئاسة الوزراء.
ونلاحظ هنا ملاحظتين أولاهما أن سورة يوسف هى السورة الوحيدة فى القرآن التى أشار الله فيها إلى حاكم مصر بأنه الملك وليس الفرعون.. لأن الفرعون ارتبط فى القرآن بالظلم والكفر والقسوة.
أما آية «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ» فهى على لسان النبى موسى عندما سمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه.. ويلاحظ أن الإشارة هنا إلى الملأ أى عِلية القوم المحيطون بالفرعون وهم الموصوفون بالظلم وليس عامة المصريين.. كما يدعى الكاتب.
***
ويقول هذا الكاتب أيضا: واللى يقولك مصر بلد الحرية قوله: «ما ذكر الله (السجن) إلا فى مصر». وأنا أقول: إن هذه إشادة بمصر.. فهى الوحيدة التى يوجد بها نظام عقابى من آلاف السنين، بينما كل ما حولها قبائل بدوية لا يوجد بها نظام للقضاء ولا نظام للعقاب، أى لا يوجد بها بنية تحتية للعدالة.. عقوبة السجن هى عقوبة متطورة لم تعرفها المجتمعات البدوية البدائية.. كانت العقوبات لديهم المناسبة للبيئة وللقدرات هى عقوبات فورية.. القتل أو تقطيع الأطراف أو الطرد من القبيلة (ومن هنا جاءت فئة المطاريد)، أو الاسترقاء.
***
كان حريّا بكاتب هذا الكلام أن يستوعب عظمة الدلالات الكثيرة فى قصة يوسف والسجن.. يوسف الذى اتهم ظلما بمراودة زوجة العزيز (أى رئيس الوزراء) ثم سجنه وليس قتله.. يوسف السجين.. سجين المحبسين.. السجن والعبودية.. عندما استدعاه ملك مصر بعد أن علم بقدراته فى تفسير الأحلام.. أقول الملك بنفسه وليس مأمور السجن.. رفض أن يلبى الدعوة قبل أن تعاد محاكمته وتثبت براءته.. ويستجيب الملك ويتولى التحقيق بنفسه ويقتنع الملك ببراءته ويعجب بقدراته ويعينه على خزائن الأرض.
***
يقودنى هذا إلى آية أخرى أسىء فهمها كثيرا وهى الخاصة بالأسرى؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا».. (سورة الأنفال: الآية 67) والذى يفسر هذه الآية على أنها حض على قتل الأسرى فإنه يخالف نصا صريحا فى القرآن يدعو إلى إكرام الأسير.
( ففى الآية رقم 8 من سورة الإنسان) يجعل الله سبحانه وتعالى إكرام الأسير وإطعامه من صفات المؤمنين الأبرار فيقول عن الأبرار: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينا وَيَتِيما وَأَسِيرا»، هكذا وضع الأسير فى موضع يثير الشفقة مع الأيتام والمساكين.. وجعل الإحسان إليهم من صفات الأبرار.
أما النهى عن أخذ الأسرى قبل التمكين فى الأرض فمرده أن العرب اعتادوا فى حروبهم القبلية على أخذ الأسرى كغنائم يتم مقايضتها بالمال.. لذلك كان النهى موجها فى الآية الكريمة لأولئك الذين أخذوا الأسرى وكانوا حديثى عهد بالإسلام بدليل قوله تعالى: «تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا» (سورة النساء: الآية 94) أى المال.. وأما قوله: «حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأَرْضِ» (سورة الأنفال: الآية 67) أى السماح بأخذ الأسرى بعد التمكين فى الأرض وتوافر الإمكانات لإيواء مثل هؤلاء الأسرى وإطعامهم والعناية بهم.
وقد ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه جعل فدية الأسير المتعلم هى أن يقوم بتعليم القراءة والكتابة لعدد من المسلمين.
وأخيرا.. لا أجد ختامًا أفضل من النصيحة القرآنية:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ» (سورة الأحزاب: الآيتان 70، 71).