تمد الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل بالسلاح والذخيرة والمعلومات الاستخباراتية، وتحرك قطعا عسكرية عملاقة لردع أعدائها، وتدعمها ماليا وتوفر لها عالميا الغطاء الدبلوماسي الذي يحميها من المحاسبة على جرائم العدوان والاستيطان والفصل العنصري والتهجير والحصار التي ترتكبها والذي يحول أيضا دون التزامها بالقرارات الدولية القاضية بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وبقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
على الرغم من كل هذه الأدوات التي بحوزتها، لا تستطيع الولايات المتحدة بمكالمة تليفونية من رئيسها أو رسالة يبلغها وزير خارجيتها أن تجبر إسرائيل لا على القيام بأفعال معينة ولا على التوقف عن أفعال أخرى. والسبب هو أن إسرائيل راكمت من عوامل القوة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والمالية ما يمكنها إما من رفض الضغوط الأمريكية أو التحايل عليها حين تأتي.
السبب كذلك هو أن إسرائيل طورت من علاقات التحالف وشبكات التعاون مع القوى الكبرى ما يسمح لها بالحد من وطأة الضغوط الأمريكية حين تواجه بها. ومن بين تلك العلاقات يبرز التحالف الاستراتيجي الكامل مع ألمانيا التي تدعم إسرائيل عسكريا وتكنولوجيا وماليا دون قيد أو شرط، وبدبلوماسية مزدوجة المعايير تدافع عن جرائم الحرب المرتكبة راهنا في غزة كدفاع شرعي عن النفس وتتجاهل حقائق الاحتلال والاستيطان والتهجير والحصار القائمة منذ عقود.
ومن شبكات التعاون التي باتت مؤثرة في تفاعلات السياسة الدولية تجدر الإشارة إلى التعاون بين إسرائيل والهند في مجالات التكنولوجيا العسكرية والاقتصاد والتجارة الذي يدفع العملاق الآسيوي القريب تاريخيا من الحق الفلسطيني والعربي إلى الانحياز لحرب حكومة نتنياهو على غزة وتجاهل المطالبة بوقف إطلاق النار، والامتناع في الجمعية العامة للأمم المتحدة عن التصويت على القرارات التي تدين إسرائيل.
• • •
لا يعني هذا أن الولايات المتحدة لا تستطيع على الإطلاق الضغط الفعال على حليفتها الأهم في الشرق الأوسط ودفعها إما إلى الامتناع عن تنفيذ سياسات وممارسات عنيفة تجاه الشعب الفلسطيني والجوار العربي والإقليمي أو إلى تبني سياسات وممارسات تقلل من مناسيب الصراع وعدم الاستقرار. غير أن واشنطن لا ترغب في الضغط على تل أبيب وتنحاز إداراتها، جمهورية كانت أو ديمقراطية، لسياسات الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري وتبرر جرائم الحرب المرتكبة راهنا في غزة.
وليس العنف الذي تواجه به الاحتجاجات الطلابية المناهضة للحرب في غزة والتي اجتاحت جامعات النخبة والجامعات الحكومية والكليات الجامعية على امتداد الولايات المتحدة، وواجهتها عديد الإدارات الجامعية بالفض والمنع وتقييد الحرية، ليس في هذا العنف سوى دليل صريح على تجاوز الانحياز لإسرائيل حدود نخب السياسة الأمريكية وتجذره في الحياة العامة التي تضطلع بها نخب المال والأعمال والإعلام القريبة من إسرائيل بأدوار بالغة النفوذ والتأثير. وقد تمكنت النخب تلك من صناعة تعاطف عام مع إسرائيل على الرغم من سياسات وممارسات الاحتلال والاستيطان والتهجير والفصل العنصري والحصار الظالمة. تمكنت أيضا من الترويج المستمر لتصنيف كل انتقاد للسياسات والممارسات الإسرائيلية كتعبير عن العداء للسامية، وهو سيف الاتهام المسلط اليوم على رقاب طلاب الجامعات المحتجين والمهددين بالفصل والإيقاف، ورقاب الأساتذة المتعاطفين معهم والمهددين أيضا بالفصل والإيقاف. نفس تلك النخب القريبة من إسرائيل هي التي تنشر المقولات العنصرية والمعادية للشعب الفلسطيني والعرب.
• • •
أما أوروبا، فهي في المجمل وفيما خص إسرائيل وفلسطين وقضايا الشرق الأوسط تتبع التوجهات والسياسات الأمريكية. فقد بات الهم الرئيسي للجانب الأوروبي في منطقتنا هو الحد من الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط، وهم فيما عدا ذلك غارقون في تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية ولا رغبة لديهم في التورط في حرب غزة ولا صراعات أخرى. ووراء الأمر أسباب سبقت حرب غزة ويتعين توضحيها.
قبل نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية، رتب تراجع اهتمام الولايات المتحدة بمجمل قضايا الشرق الأوسط الحد من أدوار القادة الأوروبيين الذين اعتادوا الاستفادة من نفوذ القوة العظمى ومن الضمانات الأمنية التي قدمتها، ومن التجارة الحرة التي رعتها لتطوير علاقات واسعة مع بلدان المنطقة بهدف حماية إمدادات الطاقة إلى أوروبا، والنفاذ إلى الأسواق وتصدير السلاح بجانب الاهتمام بقضايا الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب والحد من الهجرة غير الشرعية. ضيّق تراجع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من مساحات حركة الجانب الأوروبي الذي اعتاد أن ينشط دبلوماسيا وسياسيا حين تنشط حليفته على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.
لم تجد أوروبا المتراجعة في الشرق الأوسط والمستنزفة في الحرب الروسية-الأوكرانية الكثير الذي يمكن أن تدفع به إلى الساحات الداخلية والإقليمية للحرب في غزة. تدعم أوروبا أوكرانيا عسكريا وماليا، وتواجه روسيا اقتصاديا وتجاريا متحملة كلفة باهظة فيما خص واردات الطاقة وتراجع معدلات النمو الاقتصادي، وتخصص المزيد في موازناتها للإنفاق الدفاعي والتسليح، وتستثمر الكثير من الجهد التفاوضي في تنسيق المواقف المتضاربة بين دول كألمانيا التي تواصل إرسال السلاح والمال إلى أوكرانيا وتعلن عن حتمية احتواء روسيا، وبين دول كبولندا والمجر ورومانيا التي تعارض مواصلة التورط في حرب خاسرة تقترب فيها روسيا من تحقيق كافة أهدافها.
كذلك لم تجد أوروبا التابعة للولايات المتحدة، فيما خص سياستها تجاه الشرق الأوسط، لا في بروكسل ولا في باريس وبرلين ولندن، الإرادة أو القدرة على تجاوز محددات الموقف الأمريكي من الحرب. وأهم تلك المحددات هو كون واشنطن لا تعارض استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية (بما في ذلك الاجتياح البري لرفح) وإنما تختلف مع حكومة بنيامين نتنياهو بشأن شروط إدارتها التي ترغب القوة العظمى في تحولها باتجاه حماية أرواح السكان المدنيين وتوفير ملاذات آمنة لهم قبل اجتياح رفح والحد من الكارثة الإنسانية بإدخال المزيد من المساعدات. ويعني ذلك أن القادة الأوروبيين، ومنهم من لا يريدون الابتعاد قيد أنملة عن الموقف الأمريكي كدول وسط وشرق القارة، يتجنبون التورط في غزة لكيلا لا تتناقض سياساتهم مع الأخ الكبير في واشنطن.
من جهة أخيرة، يمثل الانسحاب الأوروبي حصيلة تقلبات السياسات الداخلية في عديد من دول الاتحاد وفي بريطانيا التي تواجه مجتمعة صعود اليمين الشعبوي وتعاني من نقاشات عقيمة ولكنها خطيرة عن التطرف والعداء للسامية والإسلاموفوبيا. في الانسحاب من غزة بعد التراجع العام في الشرق الأوسط، يرى الأوروبيون الحل الوحيد للحفاظ على التوافق داخل مجتمعاتهم بين مجموعات سكانية متنوعة بها من يرون أن حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها يتجاوز كل اعتبار آخر، وبها من يدافعون عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ويرون الصهيونية كأيديولوجية عنصرية واستيطانية عدوانية لا تستحق الدعم. ولتقليل مناسيب الصراعات الداخلية في أوروبا، يصمت الاتحاد في بروكسل وتصمت الدبلوماسيات الكبيرة عن حرب الإبادة الإسرائيلية التي تحدث في غزة ويقزمون قارتهم إلى مواقع اللافعل.