الكتاب والمعلقون على الأحداث الجارية فى مصر، فى ورطة لا يحسدون عليها. ليس سبب الورطة قلة الأحداث بالطبع، أو قلة أهميتها. فالأحداث الجسيمة، منذ سنتين ونصف السنة، تحدث كل يوم: مليونيات فى الميادين، رئيس يسقط، ثم استفتاء وانتخابات نظيفة لأول مرة، واعتصامات يومية وإضرابات، ثم ضرب مبرح وقتل سافر فى أعقاب مباراة لكرة القدم، وقتلى وجرحى فى مسيرة سلمية إلى ماسبيرو، إلى تصويب الرصاص إلى العيون وكشوف عن العذرية...الخ.
أثناء ذلك حوارات لا تنتهى إلى أى شىء، ولجان استشارية لتقديم النصيحة يستقيل رئيسها، ولجان لوضع الدستور تفشل فى وضعه. وعشرات المرشحين لرئاسة الجمهورية، بعضهم ينتمى إلى النظام الذى قامت الثورة لإسقاطه، ولا يصدر قرار باستبعاده، ثم ينسحب أو يستبعد واحد من المرشحين بعد آخر دون أن يقدم لنا تفسير معقول للانسحاب أو الاستبعاد، ولا يبقى إلا اثنان إحداهما مر، أحدهما ينتمى بدوره إلى النظام القديم والآخر لا يكاد يعرفه أحد، ويقال انه جاء كمجرد احتياطى لغيره. وعندما ينجح هذا المرشح الأخير فى الحصول على مقعد الرئاسة يقوم بعد أيام قليلة بتنحية المجلس العسكرى الذى كان يحكم البلاد، وتتم التنحية بسهولة مدهشة، ويقبلها المجلس العسكرى دون أى تذمر.
ثم نفاجأ باختيار شخصية باهتة جدا كرئيس للوزراء، مع أننا ندخل عصرا جديدا انتخب فيه رئيس الجمهورية بانتخابات حرة بعد فترة طويلة من التزوير. وننتظر على الرغم من ذلك صدور قرارات مهمة تعالج بها مشكلات الأمن أو الاقتصاد أو السياحة أو الفتنة الطائفية، فلا تصدر إلا قرارات مدهشة للغاية، من أهمها قرار بإغلاق المحال التجارية فى العاشرة مساء، ثم يلغى القرار بعد قليل.
أثناء ذلك كله تحدث أيضا أشياء كثيرة أخرى مدهشة: خطب تحتوى على عبارات من العصور الوسطى، ودعوة إلى أن يحتضن الناس بعضهم بعضا، واستبدال وزير فاشل بوزير فاشل آخر، وتثار مشكلات غريبة على هذا العصر، كختان البنات أو سن زواجهن أو ما إذا كان الاحتفال بشم النسيم حلالا أم حراما. وخلال العامين ونصف العام، نسمع يوميا عن محادثات مع صندوق النقد الدولى حول قرض مزعوم لا يتم أبدا، ولكن لا تنقطع أيضا المحادثات بشأنه دون أن يقال لنا أى شىء معقول عما يدور فى المحادثات.
أثناء حكم المجلس العسكرى نسمع أيضا عن خلاف خطير بين الحكومة المصرية والحكومة الأمريكية، إلى حد اعتقال ابن وزير أمريكى بتهمة غير معقولة، ولا يتصور أن تفسر علاقات حميمة عمرها لا يقل عن أربعين عاما، ثم تحل المشكلة فجأة دون أن يقدم لنا تفسير مفهوم عن سبب نشوئها أو سبب انتهائها.
أما علاقة الحكومة الأمريكية بجماعة الإخوان المسلمين وحكومتها، قبل أو بعد انتخاب رئيس ينتمى إلى هذه الجماعة، فهى أيضا علاقة تثير تساؤلات كثيرة لا يقال لنا ما الذى يستهدفه كل من الطرفين منها تبدو العلاقة على أفضل ما يرام لفترة، ثم يتكهرب الجو ويعلن عن إلغاء معونات عسكرية مهمة، أو تأجيلها إلى أجل غير مسمى، ثم يعلن صندوق النقد فجأة وقف مفاوضات القرض أيضا إلى أجل غير مسمى...الخ.
ثم نفاجأ بطلب القائد العسكرى من الشعب أن يعطى له تفويضا بضرب الإرهابيين، ثم يحدث هذا الضرب بنتائج فادحة وضحايا تفوق المتوقع، دون أن يقال لنا بالضبط من الذى بدأ الضرب ودرجة العنف المستخدمة من الطرفين.
●●●
ليس هناك كما ترى أى ندرة فى الأحداث الجسيمة، إنما تأتى ورطة الكتاب والمعلقين على الأحداث من ندرة المعلومات. وأنا لا أقصد بالمعلومات تلك الأخبار أو التصريحات التى تصدر فى أعقاب المقابلات أو الزيارات أو فى المؤتمرات الصحفية. فهذه لا ندرة فيها ولكن لا قيمة لها على الإطلاق.
فالذى يقال فى هذه التصريحات هو من نوع اجتماع فلان بفلان لبحث العلاقات الثنائية، أو مشاكل المنطقة، مما يتكرر فى كل تصحيح منذ أن كانت هناك أى علاقات ثنائية وأى مشكلة على الإطلاق. دون أن يقال لنا مثلا أى شىء عما صدر من تهديد من جانب أو وعد بالمكافأة، ومن رضوخ من الجانب الآخر أو وعد بالسمع والطاعة. نحن لا يقال لنا أى شىء ذى قيمة على الإطلاق، مما يمكن أن يساعد على فهم ما يحدث وتوقع ما يمكن أن يحدث فى المستقبل.
ثم يحدث الانقسام الرهيب المفاجئ بين قادة الجيش وبين جماعة الإخوان المسلمين، ما الذى سبب هذا الانقسام المفاجئ؟ هل هو قيام الناس بمليونية جديدة فى 30 يونيو ضد نظام الإخوان، أم أسباب أخرى لا يفصح عنها؟ وما سر الإعلان المفاجئ عن معونات سخية من ثلاث دول عربية خليجية كانت ممتنعة عن تقديم الدعم قبل سقوط نظام الإخوان؟ وهل تستطيع هذه الدول الخليجية حقا.
وهى المعتمدة اعتمادا كليا على دعم الولايات المتحدة لها، اتخاذ مثل هذه القرارات المهمة دون رضا الولايات المتحدة أو إذنها؟ وما سر هذا الغموض فى موقف الولايات المتحدة من إسقاط نظام الإخوان المسلمين؟ وما الذى قاله المبعوث الأمريكى فى زيارته المسرعة إلى القاهرة بمجرد سقوط هذا النظام، لرئيس الجمهورية المؤقت، ولرئيس الحكومة الجديدة، ولقادة الجيش؟
●●●
الأسئلة المهمة كثيرة جدا، وليس هناك أى إجابة شافية لأى منها. فما الذى يمكن أن يفعله الكتاب والمعلقون الذين يدبجون المقالات يوميا، ويدلون بالرأى فى الأحاديث التليفزيونية التى لا تنقطع؟ اقرأ ما يكتب، واستمع إلى ما يقال لتعرف ما اهتدى إليه الكتاب والمعلقون للخروج من هذه الورطة، بدلا من محاولة فهم ما يحدث، ما دام هذا الفهم قد أصبح صعبا للغاية أو فى حكم المستحيل. لقد انقسمت التعليقات إلى الأنواع الثلاثة التالية:
النوع الأول: هو تأييد هذا الجانب من المتخاصمين أو ذم الجانب الآخر، وإصدار أحكام أخلاقية على هذا وذاك دون محاولة لتفسير دوافع هذا الجانب أو ذاك، أو القوى المساندة أو المعارضة له.
النوع الثانى: هو التعبير عن قيم مثالية لا يمكن أن يختلف عليها أحد، كضرورة تجنب إسالة الدماء، وأن يسود الوئام بين كافة الأطراف المتنازعة، مع تجاهل العقبات التى تحول دون تحقيق هذا الوئام، من هذا القبيل أيضا إطلاق مبادرات للتصالح، من المعروف مقدما أن كلا من الطرفين لا يمكن يقبلها دون تنازلات لا يمكن للطرف الآخر تقديمها.
النوع الثالث: استخدام مصطلحات معقدة، مستعادة من كتب العلوم السياسية توصى بعمق فهم من يستخدمها للمشاكل الجارية، دون أن يكون لهذه المصطلحات أى قيمة فى حل أى مشكلة من هذه المشكلات.
●●●
إذا كان هذا هو الحال، واستمر افتقارنا إلى أى معلومات صادقة عن حقيقة ما يجرى فى الكواليس، بل واستمر صدور التصريحات بعكس الحقيقة بالضبط، فما الذى يمكن أن يكتبه المرء إلا محاولات لتخمين الدوافع والأهداف والنوايا الحقيقية للأطراف المتصارعة، والأطراف التى دعمها أوتحاربها من وراء الستار، مهما كانت المصاعب التى تواجه محاولة التخمين؟