إذا بتحبوا خالد خليفة كونوا مثله مبتسمين - سيد محمود - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 4:06 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إذا بتحبوا خالد خليفة كونوا مثله مبتسمين

نشر فى : الثلاثاء 3 أكتوبر 2023 - 9:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 4 أكتوبر 2023 - 2:56 م
مات أبى ومن بعده أخى ثم أمى ولم أعرف كيف يمكن لى الكتابة عن أعزاء فقدتهم، واعتبرت أن موتهم شأن شخصى لا يجوز توريط القارئ فيه، لكن موت صديقى الروائى السورى خالد خليفة أصبح رغما عنا جميعا شأنا عاما وليس شأنا شخصيا، على الأقل بحكم المكانة التى صنعها لنفسه  كروائى بارز.
تصدر خبر موته وكالات الأنباء العالمية وأصبح رئيسيا فى أغلب صفحات الأدب فى العالم، فقد رشحت أعماله لجوائز كثيرة، أهمها جائزة الإندبندنت وجائزة  نادى الأدب الأمريكى، كما ترجمت أعماله إلى لغات عالمية يصعب حصرها، وطاف معها أغلب بلدان العالم، دون أن يغادر بلاده أو يتخطى جرحها الأبدى. تمكن عبر 15 عاما من نقل وجوه المأساة السورية إلى العالم، وقبل انفجار الأزمة هناك كتب روايته الشهيرة (مديح الكراهية 2006) وكانت نبوءة كاشفة عن هشاشة الحالة السورية. نكأ الراحل بشجاعة تصل إلى حد التهور جراح السوريين، وكشف عن الهويات القاتلة والأثمان المدفوعة ليبقى الوضع على ما هو عليه الآن. وعلى الرغم من قرار منعها الذى استمر لعدة سنوات، إلا أن شهرتها بين السوريين جعلت منها وثيقة دامغة عن سيرة الدم  فى عصب الألم السورى، وانجيلا من أناجيل التبشير بالثورة التى لم تتأخر كثيرا وواصل بعدها التأريخ لهذا الألم فى عملين آخرين نالا شهرة أكبر وهما: (لا سكاكين فى مطابخ هذه المدينة) و(لم يصل عليهم أحد) اللذين تناولا سيرة المدن المعاقبة التى حاولت الخروج عن طاعة (البعث). وذهب مباشرة فى روايته (الموت عمل شاق) إلى مقاربة الوضع الراهن مجسدا برهافة بالغة (شعرية المأساة) وهى حية تمشى بين الناس، بعد أن أصبحوا عاجزين عن إحصاء أعداد موتاهم، أو كما كتب: (تحول الموت فى سوريا إلى أكثر الأشياء توزيعا بالعدل بين الناس، فالكل يقتل والكل يحتفل بموته بالطقوس نفسها، فقد تغيرت طقوس تلقى خبر الموت، بعد أن صار الموت خبزا يوميا لا دهشة فيه) تشيع فى رواياته رائحة الموت لكنه آمن بأنها دائما روايات عن قوة الحياة وعن الحب.
وهذه مفارقة أولى فى مسيرته أذهلت من عرفوه، فهو الناطق الرسمى باسم الحياة، ومع ذلك جازف بالكتابة عن الموت
 مؤكدا أن «الحكاية ستبقى، وأى محاولة لطمسها ستعيد إشعالها من جديد».
مات خالد خليفة وتحقق له ما أراد، توحد مع أبطاله فى موتهم، هكذا بالبساطة التى كان يتمناها لنفسه كأى مزارع بسيط  تمتلئ حياته بأحاديث لا تنتهى عن الروائح والنكهات وعن مشى لا ينتهى فى حقول الزيتون، وألفة مع روائح تقود روحك إلى اليقظة لأنها تشبه رائحة الكمون. شبع خالد من الحياة ومن الحب والناس، وعاش حياته طولا وعرضا، سهر ودخان وصخب، وتعب من إحصاء المقاهى والحانات التى كان يداهمها فى مختلف الأوقات والتقى فيها أنماطا مختلفة من البشر تعلم معهم احترام الضعف الإنسانى وصار خزانة كبيرة لأسرار لا حدود لها أصبح وحده المؤتمن عليها.
والمفارقة الأخرى أنه أنهى حياته منحازا للعزلة وهو الذى كان يخشى أن يضبط وحيدا، لذلك انفرد به الموت فى نهار يتيم وهو داخل شقته وتلاعب به بعد أن وجده يفتقر إلى البحر والمدى. أجبره الصمت الذى يطوق المدينة على الاستسلام أخيرا، لكنه ولحسن الحظ لم يمت مهزوما أو منكسرا بل على العكس من ذلك قاوم من يدعون أنهم ورثة (الأبد) ومد يده ليأخذ سوريا من الضياع الذى راحت إليه.
عرفت خالد خليفة وهو فى طليعة الموقعين على إعلان دمشق الرافضين لبقاء الجيش السورى فى لبنان وأخذنى إلى ميشيل كيلو وعارف دليلة وياسين الحاج صالح وغيرهم من دعاة التغيير، كما أنه لم يكن نائما حين قامت الثورة ولم يسأل نفسه من أى مكان خرجت الجموع. صار بينهم وقال كلمته بشجاعة تأذى منها وبعد أن كسروا ذراعه استمر مع الناس محتميا بشهرته، ودافع عن حقه فى البقاء معهم واستمر داعما لكل أصوات الأمل ولعلها الأصوات ذاتها التى رافقته إلى مثواه الأخير. صار بإمكانه الآن أن يلتقى مع أبطاله المولعين بالموت فى الحياة الأخرى التى وهبها لهم، فقد شاعت فى مناماته الأخيرة قصصا كثيرا عن مسامرة الموتى والحديث مع غائبين أولهم أمه التى يضع صورتها فى مدخل بيته وكلما عبر أمامها يلقى التحية.
لم يشعر أبدا أنها ماتت، يقف فى مطبخه بالساعات يجلى الصحون والطناجر ويحدثها عن الأكلات التى يرغب فى إعدادها بمهارة تعلمها منها ويقول «أخشى دائما منها إذا خابت الوصفة».
 هل مات خالد لأن وصفته خابت، ولم يعد هناك من مجال للحب؟ ما أعرفه جيدا أنه مات وأن أعزاء يقدمون لى العزاء فيه، أغفو غفوات قصيرة وأنتبه إلى أننى فقدت صديقا  ترك لى ما هو أكثر من الحزن، وميراثا من الذكريات وأدركت أخيرا أنه لا معنى لحياة تفقد فيها أقرب الأصدقاء. امتدت صداقتنا 22 عاما وشملت كل شىء يمكن تصوره بين صديقين، مات دون أن أرى فيه وجه الرسام وقبل ان تصلنى مسودة روايته الأخيرة وعنوانها (الأبد) التى يكمل فيها ما بدأ وكانت عادته أن يعطى روايته لخمسة من الأصدقاء يختبر قدرتهم على نقدها. بلغ (خالد) أقصى ما يمكن لكاتب عربى أن يتمناه، شبع من السفر والترجمة والنساء وبنى صداقات مع أشهر كتاب العالم وحصل على منح للإقامة الأدبية فى أشهر المدن وتحدث عن بلاده فى معظم جامعات العالم لكنه رفض مغادرة سوريا وأصر على الموت فيها. وبلغ بموته المباغت حدود الأسطورة فقد توحدت ممارساته مع خطابه ولم يكن غريبا أن تتوحد سوريا كلها عند تشييعه ويسير المئات خلف جثمانه يودعونه بوصاياه التى بثها فى كتبه فهو القائل (الموت هو اكتمال الذكريات وليس غيابا أبديا) صار موته رمزا للحظة التى اشتعلت فى السويداء وتمناها هو لسوريا وهى تدهس فرقتها وطائفيتها. أعرف اليوم أن (خالد) لم يمت، لأن صوت صديقة وصلنى وهى تبكى فى جنازته
«إذا بتحبوا حدا قولولوا كونوا مثل خالد، دائما مبتسمين».